تشبه السياسات العامة كثيرًا تخصصي الطبي السابق: الأشعة التشخيصية. لاحظت هذا مبكرًا، لكن هذا أصبح شديد الوضوح مع مرور الوقت. بدأت الرحلة في طريق مليء بالضباب الذي أخذ ينقشع شيئًا فشيئًا. ولنبدأ من البداية: لماذا اخترت تخصص الأشعة التشخيصية؟
هذا تخصص لم أسعَ إليه ولم أستلطفه في البداية. ولاختياري له قصة عجيبة.
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
كانت تجربة غريبة. كنت في منتصف سنة الامتياز، ومن المتوقع أن أنهيها ثم أبدأ التكليف الذي يستمر لعامين، وبعده أو خلاله أفكر في التخصص الطبي. لكن بعد أربعة أو خمسة شهور فقط من سنة الامتياز، لم ترقني هذه الخطة. وقررت أن أبدأ في تحديد تخصصي الطبي فورًا وبدون انتظار.
لم أعرف أي تخصص أريد. دلّني صديق طبيب يمني يدرس في الولايات المتحدة على اختبارات إلكترونية تساعد في تحديد التخصص الأنسب. أجريت اختبارين، ثم أخذت أول 10 توصيات من كل اختبار. وجدت بعض التوصيات المشتركة بينهما، واستبعدت ما لم يكن متاحًا في مصر، فتبقّت 6 تخصصات. قررت أن أجرب كل تخصص لمدة شهر لأرى إن كان مناسبًا لي.
بدأت عملية الاستبعاد بسرعة: حذفت تخصصين من اليوم الأول لذهابي إلى العيادات الخارجية لهم، ثم استبعدت تخصص الجلدية بعد أسبوع. قضيت فترة أطول في طب الأطفال، لكن مع نهاية الشهر قررت أنه لا يناسبني. بقي تخصصان: التحاليل والأشعة التشخيصية. كنت محبطًا أن تنتهي القائمة إلى هذين الخيارين! وضعت علامة خطأ على التحاليل، ولم يبقَ إلا الأشعة التشخيصية في ذيل القائمة. دخلت قسم الأشعة التشخيصية في قصر العيني، وفي اليوم الأول في العيادات الخارجية، وبسبب قصة شخصية ذكرتها سابقًا، قلت لنفسي: هذا هو التخصص الذي أبحث عنه.
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
هناك ثلاثة تشابهات على الأقل بين السياسات العامة والأشعة التشخيصية:
أولًا: كلاهما يقوم بدور لا يراه المستفيدون بشكل مباشر.
ميزة الأشعة التشخيصية أنها تساعد المرضى مساعدة حاسمة في تشخيص الأمراض، لكن المريض وأهله غالبًا لا يرون هذا الدور. الطبيب المعالج هو الذي يظهر أمامهم ويُنسَب الفضل إليه. بعد إجراء الفحوص، يصف طبيب الأشعة ما يراه بدقة، يقترح عدة تشخيصات، ويرجّح أحدها استنادًا إلى الأدلة. يجمع البيانات ويفكر بطريقة منهجية ليحوّلها إلى استنتاج يساعد الطبيب المعالج في اتخاذ القرار. أليس هذا شبيهًا بدور محلل السياسات العامة؟
ثانيًا: يقوم كلا التخصصين على العمل الجماعي والثقة المتبادلة.
يدرك الطبيب النابه قيمة أطباء الأشعة وباقي أعضاء الفريق الطبي المعاون، ويبني معهم علاقة تعاون تعينه على النجاح. وكذلك السياسي أو متخذ القرار الماهر الذي يستفيد من المحللين والخبراء، بدلًا من أن يظن أنه قادر على حل جميع المشكلات وحده.
ثالثًا: كلاهما عابر للتخصصات.
طبيب الأشعة يحتاج معرفة بالباطنة، النساء، العظام، المخ والأعصاب وغيرها. كذلك العمل في السياسات العامة يتطلب معرفة بالاقتصاد، العلوم السياسية، الإدارة العامة، والعلوم الاجتماعية. بعد فترة قد يتخصص طبيب الأشعة التشخيصية في مجال فرعي محدد، وكذلك قد يتخصص محلل السياسات في قطاع بعينه مثل الصحة أو التعليم أو الطاقة.
بسبب هذه التشابهات، أشعر أحيانًا أن الانتقال من الأشعة إلى السياسات لم يكن قفزة كبيرة كما قد يبدو من بعيد، بل رحلة سرت فيها بانسياب دون أن أشعر بالغربة، رغم أنها كانت مليئة بالتحديات.
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
كانت أول مواجهة لي مع الاقتصاد الكلي عام 2013 خلال ماجستير إدارة الأعمال. كان تحديًا صعبًا، مفاهيم ورسوم بيانية لم أفهمها. ثم حين انتقلت لبرنامج ماجستير السياسات العامة كان التحدي أكبر: مستوى أعلى وزملاء من خلفيات اقتصادية قوية في مقرر متقدم عن الاقتصاد الكلي. لم يكن أمامي سوى البدء من الصفر: فيديوهات يوتيوب، مقررات كورسيرا، وكتب دراسية. وكان هدفي ألا أغرق في الأرقام أو النماذج الرياضية، بل أن أفهم الصورة الكلية أولًا. ومع الوقت تكوّنت لدي صورة خاصة عن الاقتصاد: أركّز فيها على الفهم لا على الأرقام.
ندرة المصادر التي تربط بين التخصصات المختلفة دفعتني إلى التبسيط والتدوين. ثم فكرت أن أنشر ما أقوم به على قناة يوتيوب، لعل أحدًا يستفيد. قدمت كورسات قصيرة ومركزة، ثم بلورتها في برنامج "بوصلة السياسات": برنامج مكثف يساعد القادمين من خلفيات متنوعة على فهم السياسات العامة بشكل عملي.
لكن الجهد الأكبر يذهب إلى "معهد سياسات"، الذي يحاول أن يملأ فراغًا كبيرًا في مجتمعاتنا العربية: تعزيز قدرة المجتمعات العربية على التفاعل مع السياسات العامة. التدريب وبناء القدرات يتم عبر برامج مختلفة: "زمالة سياسات" للمستوى المتقدم، "أجندة سياسات" للمستوى المتوسط، إضافة إلى برامج وإصدارات تصلح كبداية للمهتمين.
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
ولنعد حيث بدأنا: تشبه السياسات العامة الطب في كثير من الجوانب. فطبيب الأشعة يحوّل الصور المتفرقة إلى أدلة تساعد الفريق الطبي على التشخيص، لكن التحديات العامة لا يجب أن تُعامل بمنطق العلاج الطبي. في الطب توجد بروتوكولات واضحة بمجرد الاتفاق على التشخيص. في السياسات العامة يبدأ الاختلاف من تعريف المشكلة نفسها وكيفية تأطيرها، ما يؤدي إلى تعريفات وتشخيصات متعددة لنفس القضية. وحتى عند الاتفاق على تعريف واحد، فإن الحلول تختلف تبعًا للمصالح والأفكار والأيديولوجيات.
لذلك، لا أؤيد أن تُصاغ السياسات العامة كما يُصاغ العلاج الطبي. في العيادة نقول للطبيب شكوانا، فيجري الفحوص، يشخّص، ويصف "روشتة" محددة. هذا لا ينبغي أن يحدث في السياسات العامة. قد تبدو السياسات العامة مشابهة للطب من حيث الشكل، لكنها مختلفة من حيث المضمون.
هل فكرت أن تشارك هذا المقال مع أحد؟