(1)
خطاب زهران ممداني الذي أعلن فيه فوزه في انتخابات نيويورك كان مفعمًا بالحماس وروح التغيير. بدا وكأنه يكسر جدار السياسة الأمريكية السميك ليظهر جيل جديد من السياسيين الشباب. تلك اللحظة أعادت إلى الأذهان خطابات أوباما الأولى حين كان يردد عبارته الشهيرة: «نعم نستطيع – Yes We Can».
لكن المشهد، رغم ما فيه من أمل، يدفعني إلى تفاؤلٍ حذر: هل نخفض سقف التوقعات تفاديًا لخيبة؟ أم نغامر بالصعود مع الموجة، لعلها بداية تحوّلٍ حقيقي؟ يقول صديقي إننا في العالم العربي نعاني ما يشبه اضطراب ما بعد الصدمة السياسية: فالملدوغ من الأفعى يرى في كل حبلٍ أفعى محتملة! فأجيبه ضاحكًا: لنتجاوز إذن هذا الاضطراب، ولنحاول أن نفكر في دلالات هذا الحدث بدل أن نحاكمه بخيباتنا القديمة.
(2)
كثيرون قرأوا فوز ممداني من زوايا متباينة: أصله، انتماؤه، رمزيته كمسلمٍ واشتراكي في مدينة المال والأعمال. لكن ما استوقفني حقًا لم يكن كل ذلك، بل رغبته في إعادة توجيه محور الخطاب السياسي من “سياسات الهوية” إلى “سياسات الحياة اليومية”.
بدلًا من استدعاء الانتماءات الدينية أو العرقية للحشد والدعم، ركّز ممداني على قضايا تمسّ كل إنسان: غلاء المعيشة، السكن اللائق، التعليم، والكرامة الاقتصادية. بهذا المعنى، لم يكن فوزه انتصارٍ انتخابي وفقط، بل مثال لسياسة تركز على ما يوحّد الناس لا ما يفرّقهم.
ووإذا كان هذا التحول في نيويورك يعكس تغيّرًا في مزاج السياسة الأمريكية، فهو يطرح سؤالًا موازيًا على عالمنا العربي. فما تزال “سياسات الهوية” تهيمن على المجال العام في معظم بلداننا — حيث تُستَخدم الانتماءات العرقية والمذهبية كأدواتٍ للتعبئة والإقصاء. تذكّرنا تجربة ممداني بأن السياسة يمكن أن تعود إلى معناها الأصلي: خدمة الناس وتحسين شروط حياتهم.
هل يمكن أن يحدث هذا التحول عندنا؟ ربما يبدو بعيدًا اليوم، لكنه — كما تُعلّمنا انتخابات نيويورك نفسها — ليس مستحيلًا إذا بدأت القصة السياسية من الناس، وبالناس.
(3)
نقطة البدء لدى ممداني كانت السياسة ذاتها: إحياء الحشد السياسي، لا الهروب منه. لم يُخفِ انتماءاته، ولم يتبرأ من قناعاته. على العكس، أظهر كيف يمكن لهذه القناعات أن تخدم المواطنين وتقدّم حلولًا لمعاناتهم. فبدلًا من تبنّي خطابٍ يسعى إلى نزع السياسة، ذهب ممداني في الاتجاه المعاكس — نحو مزيدٍ من السياسة، ومزيدٍ من التسييس.
التحدي الأكبر أمامه كان في صياغة خطابٍ سياسي يقنع مدينة مثل نيويورك، عاصمة المال وقلعة الرأسمالية، بأن السياسات الاشتراكية يمكن أن تعمل هناك. لم يغيّر جوهر أفكاره، لكنه أعاد ربطها باحتياجات الناس اليومية. هذا الربط بين الموقف السياسي والحياة اليومية هو جوهر ما جعل خطابه مختلفًا.
لقد بنى سرديته على ثنائية الخير والشر: “أنا الرجل الطيب في عالمٍ يسيطر عليه الأشرار”، داعيًا الطبقة الوسطى المنهكة إلى دعمه في معركته ضد هيمنة المال والسلطة. عرضٌ بسيط لكنه فعّال: “ادعموني لتنتصروا لأنفسكم، ولتحصلوا على حياةٍ أفضل تستحقونها.” خطاب جريء، عالي التسييس، ومسنود بسردية تُخاطب وجدان المدينة وتعيد للسياسة معناها الأخلاقي.
(4)
وكلّ يدّعي وصلاً بليلى — وليلى لا تُقِرّ لهم وصالًا.
كل السياسيين يقولون إنهم يعملون من أجل الناس. من يرفع الأسعار يقول ذلك، ومن يخفضها يقول الشيء نفسه. فكيف نعرف من يخدم الناس فعلًا، ومن يتذرّع بهم؟
طريقة الوصول إلى السلطة تحدد المسار الذي تسلكه لاحقًا. فليست السياسة منافسةً على الأصوات فقط، بل منافسة على تأطير المشكلات العامة أيضاً. من يٌقدم المشكلة بطريقةٍ ما، يُلزَم — شاء أم أبى — بمساراتٍ محدودة في المستقبل. أعاد ممداني تأطير مشكلات نيويورك لصالح الطبقة العاملة، محوّلًا حملته إلى مساحةٍ للتفكير والمشاركة الشعبية، لا مجرد دعاية انتخابية. يمكن للممداني أن يغير تأطيره في وقت لاحق تحت ضغط السياسية، وإذا أراد تجنب هذا المصير فعليه بمعالجة التحدي التالي: كيف يمكن تحويل هذه المشاركة الشعبية وحملات الدعم والمناصرة التى أوصلته للسلطة ت من “حملة” إلى “مؤسسة”، من حماسٍ مؤقت إلى شراكةٍ دائمة؟
(5)
يعرف ممداني أن الفوز في الانتخابات لا يكفي لتغيير الواقع. فالحملات الملهمة تصطدم سريعًا بجدار المصالح والبيروقراطية وموازين القوى. وهنا يبدأ الاختبار الحقيقي: كيف تستمر السياسات التي تُقال “من أجل الناس” حين تبدأ لعبة التنازلات؟ تلك ليست أسئلة أمريكية فحسب، بل هي جوهر كل مشروعٍ سياسي في أي مكان.
ربما الدرس الأهم في تجربة ممداني لا يكمن في مضمون برنامجه، بل في طريقته في التفكير: العودة إلى الناس، لا بوصفهم جمهورًا انتخابيًا، بل شركاء في صناعة السياسة.
فعندما تصبح السياسة أداةً لتحسين شروط الحياة اليومية، وليست مجرد ساحةٍ للصراع أو الولاء، يمكن أن نبدأ الحديث عن تسييسٍ ناضج لا يخاف من السياسة، بل يوظفها للمصلحة العامة.
قد نقرأ صعود ممداني كردّ فعل على صعود ترامب، وقد يكون ذلك حقيقيًا جزئيًا. لكنه أيضًا تذكير بأن السياسة، رغم كل الإحباطات، لا تزال قادرة على مفاجأتنا. ليست هذه بالضرورة لحظةً تاريخية أو بداية نظامٍ جديد، لكنّها بلا شك تذكيرٌ بأن عجلة الحياة لا تتوقف، وأن لكل مشكلة حلًّا، ولكل حلٍّ بديلًا، وأنه — كما قال الشاعر —
”وما نيلُ المطالبِ بالتمنّي * ولكن تُؤخذُ الدُنيا غِلابا “



ممتاز النشر استاذ محسن وتحليل رائع لظاهره صعود ممداني عمده نيويورك