تقاطع الطٌرق؟
المسكوت عنه في اختيار الكليات
ظهور نتيجة الثانوية العامة هو الوقت المثالي لسؤال: هل تختار الكلية التى تحب أم الكلية التى يحبها الناس؟ لو كنت تحب البرمجة أو التسويق أو الإعلام في حين أن مجموعك يؤهلك لدخول كلية الطب أو الهندسة أو أي من كليات القمة، فما هو الإختيار الأفضل في هذه الحالة؟ هذا هو السؤال الذي يتردد كثيراً في مثل هذه الأوقات. شخصياً، درست في كلية الطب وأكملت بعدها دراسات عليا، ثم خرجت من مصر لأدرس في بلدين آخرين (قطر وتركيا) في مواضيع ترتبط بالعلوم الاجتماعية (السياسات العامة، العلوم السياسية). لذلك فمن الناحية العملية على الأقل قد يكون لدى خبرة تمكنني للحديث حول هذا الموضوع. لكن موضوع التعليم والدراسة بشكل عام هي مواضيع أهم من نعتمد في تقييمها على الخبرات الشخصية الفردية فقط. خبرة أو تجربة شخص ما مفيدة بالتأكيد لكنها وحدها لا تكفي للحكم بشكل جيد على هذا الموضوع. لذلك فسأبدأ من تجربتي الشخصية إنتقل إلى المشاهدات العامة من أجل الإجابة على سؤال: كيف تختار الكلية التى تلتحق بها؟
أنابيب نقل النابغين
لاحظت أثناء دراستى بكلية الطب عدد من الممارسات التي بدأت بالانتشار على استحياء لكنها أصبحت الآن من الممارسات الطبيعية. مثلاً، شراء الكتب التى تساعد على دخول امتحانات معادلة شهادة الطب المصرية بالشهادات الأمريكية والبريطانية وغيرها مع شراء كتب القسم. ساعد على هذا وجود هذه الكتب بسهولة داخل أكشاك بيع الكتب في كلية طب قصر العيني. ارتبط مع ظهور هذه الكتب انتشار أساتذة جامعيين تقوم بشرح هذه الكتب. يتم هذا الشرح في أحيان قليلة بشكل مجاني داخل مدرجات الكلية في غير أوقات العمل الرسمية لطلبة الكلية. كنت أذهب إلى المدرج في تمام الساعة 7 صباحاً بعد رحلة في المواصلات تستغرق ساعة على الأقل من أجل اللحاق بمحاضرة يومية لشرح أحد كتب الجراحة المشهورة لامتحان المعادلة الأمريكية. كان هذا منذ أكثر من 15 عام ولا أدري إذا كانت هذه الشروح لا تزال مستمرة أم لا. لكن في أغلب الأحيان كان هناك اساتذه تقوم بشرح هذه الكُتب بمقابل مادي كجزء من إمبراطورية الدروس الخصوصية في كلية الطب. الإمبراطورية التى نجوت منها في أغلب الأوقات بفضل الله.
السبب وراء شراء هذه الكتب في الصف الخامس والسادس من كلية الطب ودراستها مع الكُتب المحلية هو من أجل الاستعداد للسفر أو الهجرة بمجرد إنتهاء الدراسة. هذه المشاهدة الشخصية من 15 عام مرتبطة باستنتاجات متكررة داخل الأبحاث الأكاديمية تشير إلى أنه كلما زاد مستوى التعليم لدى الطلاب في العالم العربي كلما زادت الرغبة لديهم بالهجرة. طلبة كلية الطب في المثال الذي ذكرته، ومنذ السنة الخامسة والسادسة في الكلية بدأوا للاستعداد للسفر والهجرة من مصر بمجرد الحصول على الشهادة. وكأن استثمار الدول العربية في التعليم يأتي بتأثير عكسي. فبدلاً من أن يؤدي هذا الاستثمار لرفع مستوى الموارد البشرية داخل هذه الدولة، فإنه يؤدي إلى هجرة أفضل الموارد البشرية لديها إلى خارجها.
الميزة الأهم لكليات القمة في مصر مثل كليات الطب والصيدلة والهندسة وغيرها من الكليات الشبيبة أنها تؤهلك لكي تسافر/تهاجر بعيداً عن مصر بصورة أسرع. الدول الأوربية في حاجة إلى أعداد أكبر من الأطباء والتمريض والمبرمجين وغيرهم لكن لا توجد لديها الموارد البشرية ولا المالية لتعليم أعداد أكبر لديها. الحل البديل هو أن تتحول دول العالم "النامي" داخل العالم العربي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى أنابيب في مصانع توريد المواد الخام البشرية إلى مستشفيات وشركات ومعامل العالم المتقدم. طالب كلية الطب في جامعة طب القصر العيني هو مشروع برميل مواد خام بشرية يتم تهيئته محلياً وتكريره من خلال الحصول على عدد من الشهادات المحلية التى تضمن أنه طالب مجتهد، بعد ذلك سيتم نقله عبر مسار واضح ومحدد يشل عدد من الشهادات التى يجب أن يحصل عليها قبل الوصول إلى المقر النهائي. تشمل هذه الشهادات أمور متعلقة باللغة، ومعادلة المواد العلمية، واختبار القادمين في عدد من الأمور المرتبطة بالتفكير المنطقي والتنظيم. بمجرد مروره بنجاح من محطات النقل، فإنه يصل إلى الوجه النهائية حيث يتم العمل على إدخاله كمادة خام أولية داخل المؤسسات/المصانع الاكاديمية الغربية لكي يساهم في إخراج منتجات تساعد على رفع مستوى اقتصاد هذه الدول ورفاهية مواطنيها. لاحقاً، يمكن أن تصل جزء من هذه المنجزات إلى دول العالم النامي مرة أخرى لكن متأخرة دائماً وبأسعار مرتفعة في الأغلب.
التعليم المستمر
كليات القمة في العالم العربي بهذا الشكل ليست مهمة فقط من حيث المواد التي تركز عليها ولكن من حيث المهارات التعليمية والحياتية التى تكتسبها من خلالها. أهم من الشهادة الجامعية القدرة على اكتساب مهارات التعليم الذاتي والدائم. القدرة على الانضباط والالتزام والعمل بجد وبشكل مستديم لشهور وسنوات. كليات القمة العربية تقدم لك فرصة لتطوير هذه المهارات بشكل جيد. بالمقارنة مع أغلب الكليات الأخرى الموجودة بالعالم العربي، فإن كليات القمة هي التي تبني بشكل غير مقصود في أغلب الأوقات هذه المهارات الأساسية. لكن تعلم هذه المهارات ليس حكراً على هذه الكليات فقط.
هناك طُرق أخرى بديلة متاحة للوصول إلى نفس النتائج وربما أفضل. أحد هذه الطرق تبدأ من تعلم اللغات الأجنبية وعلى رأسها اللغة الإنجليزية، ثم الانغماس في المصادر المقروءة والمسموعة والمشاهدة المتاحة على شبكة الإنترنت بهذه اللغات. أثناء ذلك، يمكن تعلم مهارات مثل التخليص وأخذ الملاحظات أثناء الدروس،وتقديم العروض التقديمية و المحاضرات. بالإضافة إلى اكتساب القدرة على توصيل المعلومات بشكل مبسط، وجمع وترتيب المعلومات وحفظها في أماكن محددة. هذه مهارات تساعد في التطور المهني والتعليمي للأشخاص بغض النظر عن مجال الدراسة أو التعليم.
لو أضفنا لهذه المهارات اكتساب المعارف اللازمة لتعلم تخصص ما أو مهنة ما، فنحن الآن بصدد تكون نموذج مثالي لشخص يقتحم عالم الفري لانس بقلب شجاع. هذه موضة أصبحت منتشرة الآن بشكل كبير. تعلم البرمجة أو التسويق أو التصميم أو….مع اللغة الإنجليزية وعدد من المهارات الناعمة ثم أدخل إلى سوق العمل العالمي واقبص بالدولار. ولأن هذا المسار يكتسب جاذبية كبيرة بين الشباب الآن فلن أركز على إيجابياته التي أصبحت مشهورة، لكن دعنا نتحدث عن سلبياته، المسكوت عنها.
أعزائي الفري لانس أنتم حرفياً ريشة في هوا. والتشبيه يحمل أكثر من معنى. ريشه فلا يوجد أي إنتماء لمؤسسة أو هيئة أكبر. كما أنكم عرضة أكبر لتقلبات السوق المختلفة. لا توجد في أغلب الأحيان فرص للتأمين الصحي أو الاجتماعي. مقطوعين من شجرة، فلا أحد يمد يد العون لكم أو يساعدكم إلا بشكل شخصي. حرفياً أي تغيرات بسيطة يمكن أن تدفع بكم إلى أعلى عليين أو إلى أسفل سافليين. قد تكون الحياة بهذا الشكل مقبولة بشكل مؤقت أو لفترة محدودة. يمكن أن تكون مقبولة أيضاً من أجل الوصول إلى مستوى مادي معين أو جمع مقدار معين من المال. لكن الحياة المستمرة بهذا الشكل، هي كالإبحار في البحر بدون وجهة محددة بهدف وحيد هو استمرار الإبحار بشكل آمن وعدم الغرق.
والبدائل المقترحة، إما أن يتطور عملك الشخصي كفري لانس لشكل مؤسسي مستقر نوعاً ما، وإما أن يكون عالم الفري لانس هو بوابتك للحصول على وظيفة في مكان أفضل. أما محاولة إقناعك أن العمل بهذا الشكل طوال حياتك هو أفضل طريقة من أجل حريتك والعيش على طريقتك كما تريد فهي كلمات يجب أن تفكر فيها كثيراً وتأخذها بكثير من الحذر.
اسم الجامعة أهم من الكلية
من الناحية الاحصائية، هناك دراسات تظهر أن هناك ميل متزايد للإنتقال بين الوظائف منذ بداية الثمانيات لكنها تزيد بشكل متسارع في جيل الألفية. . قطاعات معتبرة من الأفراد تغير وظيفتها ثلاث أو أربع مرات خلال حياتها المهنية، وهذه الأرقام في تصاعد. يعني هذا أنه على الأغلب فإن المواد التى درسها في الكلية قد تستفيد منها في أفضل الأحوال لمدة 10 سنوات بعد التخرج. و يظهر احتياج لتعلم مواد ومهارات جديدة خلال هذه الفترة. لذلك فإن محتوى ما تعلمته في الكلية ليس هو أهم معيار، بل المعيار الأهم المهارات التي اكتسبتها أثناء الكلية سواء كانت هذه المهارات مرتبطة بالمواد الأكاديمية أم بالمهارات والمعارف غير الأكاديمية. لذلك فإن التفكير في اسم الجامعة ربما يكون أكثر أهمية من التفكير في اسم الكلية.
التعليم الجيد بغض النظر عن اسم الكلية هو الذي لديه فرصة أفضل في فتح أبواب عمل مميزة. قد تلتحق بكلية لا يتم النظر إليها مجتمعياً على أنها من كليات القمة، لكنها في جامعة جيدة تقدم لك مستوى تعليمي مرتفع وفرص متنوعة ومهارات أساسية. في هذه الحالة، فعلى الأغلب ستكون فرصك المستقبلية أفضل من آخرين التحقوا بكليات قمة لكن في جامعات إقليمية غير معروفة.
الأمر الآخر المهم بالنسبة لاسم الجامعة هي الفرص التي يمكن أن تأتي لك بمجرد ذكر أسم الجامعة، وهذا أمر لو تعلمون عظيم. لنفترض أنك تخرجت من جامعة دولية محلية يتم النظر إليها في سوق العمل المحلي على أن خريجيها من طبقة اجتماعية مرتفعة وأن لديهم المهارات الأساسية. في أغلب الأحوال، وبغض النظر عن الكلية التى التحقت بها، ففرص أن يبدأ خريجي هذه الجامعة حياتهم المهنية في وظائف أو أماكن أعلى من أقرانهم مرتفعة للغاية لمجرد أنك دخلت جامعة لها اسم مختلف. نقطة البداية الأعلى هذه لها مردود طويل الأمد على مسارك الحياتي فيما بعد.
في الإغلب، إلتحاق أحدكم بجامعة لها إسم مرموق محلياً أو عالمياً يزيد من فرصكم المستقبلية بشكل كبير مقارنة بأقرانكم بغض النظر عن التخصص الدراسي.
الخلاصة
اختيار الكلية بناء على ما نحب أو ما نكره فقط ليس هو أفضل طريقة لاختيار المسارات التعليمية لنا. التعليم في أغلب الأوقات ليس مرتبط بالعلم والدراسة فقط لكنه أصبح مرتبط أكثر بالترقي الاجتماعي، وفرص التوظيف، وفرص السفر والهجرة، وتعليم القيم المدنية والديمقراطية، وغيرها من الأمور.
tلو أجملنا هذا المقال في فقرة لقلت: ليكن الاختيار بناء على اسم جامعة مرموقة تضمن لك فرص تعليم جيد جنباً إلى جنب مع فرص لاكتساب المهارات الأساسية غير الاكاديمية، وأن يكون هناك دائماً مسار مفتوح للهجرة والسفر إذا احتجت إلى ذلك.
أما لو اختصرنا المقال في جملة لقلت: التعليم الذاتي هو مفتاح المستقبل.
End of Text


