"لماذا تسأل؟ حتى لو أخبرتك فلن تفهم! أنت لم تدرس الطب وهذه أمور معقدة، أعلى من استيعابك… قضيت شهورًا حتى أستوعب أسباب المرض والعلاج المناسب له، وأنا الطبيب المختص، ولا يمكنني اختصار هذه السنوات في دقيقتين أو ثلاث لإفهامك".
يمكنك سماع هذه الإجابة التقليدية في عيادات الكثير من الأطباء، موجهة إلى المرضى. يمكنك أيضًا سماع إجابة بنفس المنطق في المناقشات العامة التي يستخدمها الخبراء والسياسيون عند الحديث إلى المواطنين في الشؤون العامة. المنطق واحد مع اختلاف الأطراف: متخصص في مواجهة شخص من خارج التخصص يتحدث عن قرارات يجب اتخاذها. تحتاج القرارات إلى المفاضلة بين خيارات متاحة تؤثر في حياة غير المتخصص بشكل كبير، لكن منطق الحوار يقول: التزموا بما نقول لكم فنحن نفهم هذا الموضوع أفضل منكم!
أتذكر الآن تدريب حصلت عليه أثناء زمالتي في برنامج الزمالة المصرية للأشعة التشخيصية، كان هذا منذ أكثر من 15 عامًا. كنا مجموعة من الأطباء والطبيبات من تخصصات مختلفة قادمين من محافظات متنوعة للحصول على تدريب على التواصل الفعال بين المرضى والأطباء. يالخسارة الوقت الضائع!
كان هذا رد فعل أغلب الحاضرين: نضيع وقتنا الثمين في تدريب فارغ يستمر لمدة أربعة أيام، يا للغباء! بدلًا من توفير تدريبات متخصصة ومتقدمة للأطباء المصريين في تخصصاتهم الدقيقة، تقدم لهم الزمالة تدريبًا عن التواصل الفعال مع المرضى. هل هناك حماقة أكثر من ذلك؟
الحقيقة أن الطبيبة المدربة كانت بارعه. بذلت الكثير من الجهد للتحضير والإعداد للدورة، كما أنها بذلت الكثير من الجهد لتدريبنا على هذا المحتوى. اتذكر الآن -ومع مرور كل هذه الأيام- الطريقة المقترحة لإخبار المرضى بخبر سئ:
لا يجب إعلامهم بالخبر السيء مباشرة، بل البدء بسؤالهم عن آخر المعلومات الطبية التي لديهم حول الحالة. والنتيجة استرجاع المعلومات السيئة المتاحة عن وضع المريض أمام أهل المريض لإدراكهم أن البدائل والنتائج المتوقعة لن تكون هي أفضل ما نتمناه.
بعد ذلك، سرد الإجراءات والعلاجات التى تم اتخاذها خلال الفترة الماضية، ولماذا قمنا بها. الهدف الآن إدراك الجهد الذي تم بذله، والخيارات الصعبة التى واجهها الطاقم الطبي. نبهت المدربة من التأكد من الفهم الجيد لهذه الإجراءات وترك مساحة للسؤال والاستفسار.
أخيراً، قدم الأخبار السيئة مظهراً التعاطف ومغلفاً العبارات الطبية بالكلمات الإنسانية. اظهر التأثر والرغبة في المساعدة، والنية بالقيام بكل ما يلزم مستقبلاً. ولاتنسى الإشارة إلى الإجراءات المستقبلية التى سيتم القيام بها من أجل ضمن رعاية جيدة.
جربت هذه الطريقة شخصيًا في مواقف متعددة وفي أماكن مختلفة، وأكاد أقول إنها لم تفشل معي ولا مرة. يكفي أن أخبركم أني طبقتها في المراكز الطبية الخاصة، كما طبقتها أثناء عملي لمدة عام في معهد الأورام بالمنيل، وما أدراكم ما مرضى معهد الأورام: الفقراء، المهمشين، المغلوبين على أمرهم.
لو انتقلنا من الجانب الإنساني إلى الجانب العملي، فقد أنقذتني هذه الطريقة كثيرًا عندما تحتد الأمور داخل أماكن العمل. يبدأ أهل المريض بالشكوى، ثم يعلو صوتهم لتبدأ نقاشات حادة بين العاملين في المستشفى أو المركز الطبي من جانب، وبين المريض وأهله على الجانب الآخر، ثم ينتقل هذا كله إلى غرفتي. تصبح المعلومات الطبية بلا فائدة إذا لم يتم إصلاح الجو العام ليكون مناسبًا لبدء الإجراءات الطبية. المفتاح السحري لقلب الأوضاع رأسًا على عقب هو التواصل الفعال واستخدام بعض الاستراتيجيات لامتصاص الغضب. بعدها، يظهر الطبيب كأنه ملاك ذو قلب عطوف بدلًا من أولئك "الأوباش" في الخارج!
الحقيقة أن الكلام أسهل من الفعل، يحتاج التواصل إلى وقت قد لا يكون متاحًا في أحيان كثيرة. يحتاج تطبيق بعض السياسات العامة لتواصل فعال لتهيئة الجو قبل التنفيذ، وإلا فلن يتم التنفيذ بنجاح. على سبيل المثال، يسير نظام الثانوية العامة على نفس النمط والمواد لسنوات، ثم في ليلة وضحاها تحدث تعديلات تؤثر على حياة الكثيرين. هذا خبر سيء لقطاع واسع من المعلمين وقد جاءهم بشكل مفاجئ وبلا مقدمات. مناقشة مضمون التعديلات الجديدة نفسها تحتاج إلى مقال منفصل، الآن نناقش طريقة توصيل هذه السياسات الجديدة، هل هي مناسبة؟
إذا كانت الإجابة بلا، فتوقعوا الكثير من الشغب والصوت العالي من أهل المريض. عفوًا، أقصد أصحاب المصلحة. توقعوا أنه لن تكون الظروف مواتية في الأغلب عند التنفيذ، ولن يكون المريض/صاحب المصلحة متعاونًا أثناء الكشف، ولن يستطيع الطبيب/التنفيذي أن يؤدي مهمته على الوجه الأكمل. أتذكر الآن استنتاجًا غير متوقع وصل إليه أحد الباحثين عند نقاش العلاقة بين الدولة والمجتمع في مصر. يشيع بين الباحثين الاعتقاد بأن الدولة المصرية قوية وقادرة على إنفاذ السياسات العامة التي تريد دون الرجوع للمجتمع، في حين أن المجتمع ضعيف ولا يمكنه مقاومة السياسات الجديدة. يقول الباحث إن مقولة قوة دول العالم الثالث في مواجهة مجتمعاتها تحتاج إلى مراجعة، فالحالة المصرية تظهر خلاف ذلك.
ضعف المجتمع قد يكون صحيحًا من جانب، لكن المجتمع لديه أيضًا آلياته الخاصة وغير التقليدية لمقاومة السياسات التي لا يحبذها عبر الامتناع عن المساعدة في تنفيذها. تبدو السياسات جميلة براقة على الورق في القاهرة، لكنها تفقد هذا البريق عند التنفيذ في محافظات الصعيد والدلتا. لماذا؟ جزء من التحليل هو أن الناس لا تريد هذه السياسات ولا ترغب في تنفيذها. هذا سياق لا يدعم تنفيذ السياسات العامة حتى لو كانت في صالحهم لأنه لم يتم استشارتهم قبل إقرارها. فقد توجد إرادة سياسية حقيقية في القاهرة لمساعدة المواطنين في المحافظات المختلفة عبر إقرار سياسات عامة معينة، لكن ما ينقص لإنجاح هذه السياسات الجيدة ليس توفر الإرادة السياسية، بل القدرات اللازمة للتنفيذ. وفي ظل مؤسسات ضعيفة فإن مقاومة المجتمع للسياسات الجديدة تجعل فرص نجاح هذه السياسات - حتى لو كانت جيدة - صعبة!
ألا تعرف من أنا؟
تُضِعف بعض الظروف الموضوعية من فرص التواصل الفعال، لكن لنكن صادقين: السبب الرئيسي لعدم بدء تواصل فعال هو النظرة الاجتماعية تجاه الأشخاص الذين نتواصل معهم. يقف في الطرف الأول طبيب أمضى أكثر من 10 سنوات في دراسة الطب، ويجيد لغات أجنبية، ومن طبقة اجتماعية واقتصادية مميزة بينما يقف في الطرف الثاني فلاح يحرث أرضه، جاهل لايقرأ ولايكتب إلا بصعوبة، وفقير أو على حافة الفقر. في هذه الحالة، هل يقوم الأطباء بشرح الحالة المرضية للمريض وإشراكه في الخيارات المتاحة أم سيطلب منه الإلتزام بالتعليمات و"الروشتة" المكتوبة بدون مناقشات كثيرة؟
الآن، لنستبدل الفلاح الموجود في الطرف الثاني بموظف يعمل في فرع بنك دولي كبير، يحصل على راتب مرتفع، يجيد الحديث باللغة الإنجليزية، ويبدو من ملابسه أنه من طبقة اجتماعية جيدة، ولنضع نفس السؤال مرة أخرى: هل يقوم الأطباء بشرح الحالة المرضية لهذا المريض وإشراكه في الخيارات المتاحة أم سيطلب منه الالتزام بالتعليمات و"الروشتة" المكتوبة بدون مناقشات كثيرة؟
لنتذكر أن كلاً من الفلاح وموظف البنك كلاهما مرضى عند نفس الطبيب، لكن هل يتشابه التعامل في الحالتين؟ إذا كنا نعتقد أن الشعب جاهل ولا يعلم مصلحته، فالمتوقع أننا لن نشركه في القرارات المتعلقة بالسياسات العامة للدولة. لكن هذا الفلاح هو أول من سيتأثر بالعلاج المكتوب له؟ هو أكثر من سيعاني وأكثر من يستفيد، فهل نتجاهل تفضيلاته وخياراته لأن الطبيب يعرف أفضل منه؟
هناك فارق أخر، يستفسر موظف البنك في الاغلب من الطبيب عن مرضه وخطه العلاج، ويتوقع من الطبيب أن يجيب على هذه التساؤلات، وإذا لم يقم الطبيب بذلك فسوف يتراجع تقييم للطبيب ومهاراته لدى موظف البنك. لايحدث في الأغلب أيًا من هذا مع الفلاح!
أزيدك من الشعر بيتاً، موظف البنك- الغني والمتعلم- إذا لم يحصل على مايتوقعه من الطبيب فسوف يقوم بإثارة الكثير من الشغب، وإذا تطورت الأمور فربما يقوم بالتشكيك في مهارة الطبيب وخبراته، وإذا تطورت الأمور أكثر فسوف يقوم بالتعدي اللفظي، وربما البدني على الكادر الطبي. هل لديكم أي وقائع تؤيد كلامي؟
مظهر الفلاح الفقير وقدومه من طبقة اجتماعية منخفضه جعله أقل عرضه للمشاركة في معرفة علاجه والمشاركة في اختيار طريقة تناسبه أكثر. نفس الأمر يحدث في عالم السياسات العامة. المظهر المختلف، والطبقة الاجتماعية، والفئات المهمشة يتم استبعادها بشكل منهجي ومنظم في النقاشات المتعلقة بالسياسات العامة رغم تأثيرها المباشر على حياتهم. لِمن نوجه أصابع الإتهام: الطبيب الذي لم يحاول إشراك المريض في معرفة العلاجات المقترحة، أم المريض الذي لم يسعى لذلك ولم يطلبه؟
منذ مائة عام تقريباً، كان السائد في العلاقة بين الطبيب والمريض أنها علاقة "رأسية": الطبيب في الأعلى، والمريض في الأسفل، وبينهما طبقات من المعرفة والثروة والنفوذ. تراجعت هذه الطبقات مع الوقت لتتحول العلاقة إلى الشكل "الأفقي": الطبيب فيها أعلى قليلاً من المريض، لكنهما في مستوى قريب من بعضهما البعض. نفس الأمر حدث في السياسة، الحاكم في الأعلى والمحكوم في الأسفل، ثم تراجعت المسافة بين بين الحاكم والمحكوم. يوجد في منصب الحاكم هذه الأيام أشخاص كان لايمكن تصور اقترابهم من هذا المنصب: دونالد ترامب وجورج دبليو بوش مجرد أمثلة من كثير.
من نتائج التحول من العلاقات الرأسية إلى العلاقات الأفقية كثرة التعدي على الأطباء والكادر الطبي، فلايوجد أحد أحسن من أحد! وللمفارقة، فإن التعدي على الأطباء والكادر الطبي يتم من الطبقات العليا والطبقات الدنيا على حدٍ سواء. لايحدث هذا التعدي على الحكام وصانعي السياسات، فالأطباء لاتملك القدرة على إنفاذ القانون أو عقاب المعتدين!
الفلاحة تريد إجراء عملية تجميل!
قبل أن نفترق، أترك لكم السؤال التالي: بدلاً من الحديث عن فلاح لنتحدث عن "فلاحة"، وبدل من الحديث عن عملية جراحية عاجلة لنتحدث عن عملية "تجميلة" غير طارئة. تزيد فرص زواج البنت من شخص أفضل إذا قامت بإجراء هذه العملية. وفر أهلها الأموال اللازمة للجراحة التجميليه بعد أن قاموا ببيع جزء من ذهب الأم. يريد الوالدان الاطمئنان علي بنتهم ومستقبلها، ويرفع الزوج الغني الكثير من التعب عن كاهل البنت وأهلها مستقبلاً. ذهب الأب وأبنته إلى طبيب التجميل قادمين من مستوى تعليمي واقتصادي منخفض لكن لديهم المال اللازم للعملية. فهل يتواصل الطبيب معهم بشكل فعال ويقدم لهم المعلومات الضرورية ويشركهم في الخطط المتاحة للعلاج أم يعامل البنت وأباها بالطريقة الشائعة للتعامل مع الفلاحين القادمين من الريف؟
انتظر إجابتكم وإجابة أصدقائكم ومعارفكم!