تتصدر مواضيع محددة الاهتمام الخاص بسوريا: الدور الإيراني والروسي، التحولات الكبيرة لأحمد الشرع(أبو محمد الجولاني سابقاً)، عائلة الأسد والساعات الأخيرة قبل فرارها، وتصاعد الدور التركي في الإقليم وتبعاته على المنطقة. لكن سؤالي الحالي هو: متى تبدأ مشاكل المواطنين السوريين اليومية في الوصول إلى النقاش العام؟ وما هي السياسات المقترحة للتعامل مع هذه المشاكل والتحديات؟
::::::::::::::::::::::::::::::
لم أشعر بالفرح عندما تحولت توقعاتي إلى حقائق!
عادةً ما يشعر الناس بالفخر والسرور عندما تصدق توقعاتهم. لكن بعد سقوط نظام الأسد، لم أشعر بهذا الشعور. اكتشف الجميع فجأة أن سوريا الجديدة تحتاج إلى سياسات عامة جديدة، وكوادر حكومية جديدة، وطرق وآليات حديثة للحكم والإدارة. مواضيع مثل سعر صرف الليرة السورية، انقطاع التيار الكهربائي، توفير الخدمات الرئيسية، بالإضافة إلى تحديات إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، أصبحت تتطلب سياسات مبتكرة. فأين هي هذه السياسات العامة؟
سقوط الأسد بهذه السرعة كان مفاجأة، لكن الحاجة إلى سياسات عامة لمعالجة المشاكل لم تكن كذلك. توقعي _الذي كان أقرب إلى التخوف_ هو أنه في حال حدوث تغيير في أي بلد عربي، بغض النظر عن حجم هذا التغيير وسرعته، سنجد أنفسنا أمام مشكلة واضحة: ليس لدى الوجوه الجديدة سياسات عامة للتعامل مع التحديات القائمة.
إذا كان همّك البقاء في السلطة بغض النظر عن رضا الناس، فلن تشغل بالك كثيراً بمدى فاعلية أو عدالة السياسات العامة التي تعمل عليها. أما إذا كان بقاءك مرتبطاً برضا الناس ودعمهم، فلا مفر من سياسات عامة فاعلة وعادلة.
:::::::::::::::::::::::::::::::
الديموقراطية والسياسات العامة: العلاقة التي لا تنفصم
منذ لحظات التأسيس الأولى، كان الربط بين الديموقراطية والسياسات العامة واضحاً. أراد الباحثون الأميركيون التأكد من وجود علم يساعد على تلبية احتياجات وتطلعات المواطنين الأمريكيين ضمن النظام الديموقراطي، لضمان رضاهم. فما الفائدة من ذهاب المواطنين إلى الانتخابات لتأتي شخصيات غير قادرة على تلبية مطالبهم؟
هذا التفكير ظهر في الأربعينات من القرن الماضي، عندما كان الاتحاد السوفييتي يشكل بديلاً منافساً. لذلك، نشأ فرع أكاديمي متخصص في السياسات العامة. وهنا أتوقف دائماً أثناء التدريب أو الشرح لأسأل: إذا كان وعد الديموقراطية الغربية ارتبط بقدرتها على تحقيق مطالب المواطنين وطموحاتهم، فما هو وعد التغيير في العالم العربي؟
وفي حال توفرت الوعود، فكيف تتحول إلى واقع.
لانتحدث عن شعارات بل عن وعود، والفرق كبير. شعار الثورة المصرية: عيش، حرية، عدالة إجتماعية. لكن ما هي وعودها لتحقيق هذه الشعارات؟ ثم تأتي السياسات العامة لتحول الوعود إلى واقع. ماذا كان وعد الثورة لسوريا الجديدة؟
:::::::::::::::::::::::::::::::
قابلت نماذج سورية مشرفة عديدة خلال السنوات الماضية. كان الاهتمام الرئيسي لهم هو المجال الإغاثي بحكم الظروف التي مرت بها سوريا، لكن الاشتباك مع السياسي والعام كان حاضرًا دومًا في الخلفية. أثناء الحوارات، كان موضوع السياسات العامة مطروحًا دائمًا للنقاش، لكن دون أن يتحول النقاش إلى عمل. السبب هو طغيان الجانب الإغاثي والمعيشي على الجانب المتعلق بالسياسات العامة والحوكمة والإدارة الحكومية. وقتها، كانت تبدو هذه المواضيع كأولويات دول العالم الأول، وليست ضمن اهتمامات السوريين. كنت أتفهم المنطق خلف هذا، مع عدم إخفاء اعتراضي عليه.
المعارف والقدرات والمهارات اللازمة من أجل بناء سياسات عامة جديدة، أو من أجل تكوين كوادر بشرية قادرة على اقتراح وتنفيذ وتقييم هذه السياسات، لا تحدث بين ليلة وضحاها. تحتاج إلى سنوات ومجهود مستمر. فهل ننتظر التغير من أجل البدء في الإعداد أم نبدأ من الآن؟
كان الرد: نفضل أن يذهب أغلب الجهد إلى إغاثة اللاجئين والمشردين وتلبية احتياجاتهم الأساسية بدلًا من بذل هذا الجهد على أمور أخرى. توفير ملبس ومسكن وفرصة عمل لسوري له الأولوية عن إعداد قدرات ومهارات مرتبطة بأمور هي في "علم الغيب"!
هناك من عارض هذا المنطق. أعرف أمثلة فردية تدلل على ذلك. تجد شبابًا سوريًا، ويمنيًا، وسودانيًا يعمل على فهم واقتراح حلول للمشاكل العامة لبلادهم. رغم المآسي الحالية، لا تزال هناك روح تتحدى هذه الحالة وتعمل بجد للمستقبل على أمل أن تأتي لحظة مناسبة. جهود مقدرة، لكن هل تغني الجهود الفردية عن العمل الجماعي والمؤسسي؟
:::::::::::::::::::::::::::::::::::
نشأت السياسات العامة للحفاظ على الديمقراطية في وجه أعدائها، لكنها من أجل تحقيق ذلك استخدمت وسائل "غير ديمقراطية". ارتبطت البدايات بفكرة وجود خبراء وفنيين وتكنوقراط لديهم المعارف اللازمة والخبرات الضرورية لنجاح السياسات العامة. التصور السائد وقتها هو الذهاب إلى هؤلاء الخبراء، تقديم الشكوى لهم، ليقوموا بإجراء الاختبارات والتحاليل المساعدة، وبناءً على نتائجها، يقترح الخبراء السياسات والحلول. كأن السياسات العامة مثل ممارسة الطب: ليس على المرضى إلا الالتزام بما يقوله الأطباء وتنفيذه على أكمل وجه!
الفكرة السابقة فكرة غير ديمقراطية بامتياز. لا مشورة أو مشاركة أو تمثيل من جانب المريض عند اقتراح السياسات! فقط يشارك بالشكوى والألم، ثم يسأل الطبيب ويفكر، وأخيرًا يقرر. فما الديمقراطية في ذلك؟
لو كنا في نفس القاعة لسألتك: هل تؤيد هذا الشكل من العلاقة عند اقتراح السياسات العامة؟ ولماذا؟
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
الحكومة السورية الحالية أو القادمة غير قادرة على مواجهة التحديات والمشاكل العامة. لو كانت قناعتك أنها قادرة على التعامل مع التحديات السورية الحالية وإيجاد حلول لها، فيؤسفني القول إننا على مسافة بعيدة من بعضنا البعض. لكن هذا لن يمنعني من استكمال فكرتي. إذا كانت الحكومة السورية غير قادرة، فما العمل؟
الإجابة: هناك عمل كان يجب أن يتم في الماضي، لن نتحدث عنه كثيرًا الآن، رغم أهمية ذكره حتى تستفيد دول أخرى مثل اليمن والسودان وليبيا وغيرهم من أي فرص تغير قادمة. لنقصر الحديث على حاضر سوريا.
أول الأمر: استدعاء جهود المجتمع السوري بأكمله ليشارك في تحديد المواضيع ذات الأولوية، واقتراح السياسات للتعامل معها. استدعاء المجتمع يعني أن هناك تنوعًا في السياسات المطروحة وفي الأولويات ذات الأهمية. كما أن قبول التنوع والاختلاف أمر رئيسي في المجال السياسي، فإن قبول التنوع والاختلاف في السياسات العامة أمر ضروري.
يتبع ذلك: توفير مبادرات ومساحات وتنظيمات تتيح الاستماع إلى مطالب واحتياجات المواطنين، ومناقشتها، مع اختلافها وتنوعها. هذه المبادرات والمساحات هي صمام أمان لمشاركة أفضل، ولحلول وسياسات أكثر تمثيلًا، ولفرص نجاح أعلى لهذه السياسات. هنا يرتفع صوت الاعتراض عاليًا: هذا يحتاج إلى وقت، ونحن في عجلة من أمرنا!
أقول: في العجلة الندامة وفي التأني السلامة. وأضيف أيضًا: توفر هذه المساحات النقاشية فرصة لمعرفة المواضيع التي يمكن أن تحظى بإجماع واسع. ضمن هذه المرحلة الحالية، التفكير بعقلية "الإجماع" أفضل من التفكير بعقلية "الأغلبية". السياسات العامة التي تتوفر بها صيغة الإجماع هي أمور يمكن البدء بها مباشرة.
يحتاج هذا الإجماع إلى وجود أجندات واضحة لدى الفاعلين المختلفين بخصوص القضايا الرئيسية ذات الأولوية، والسياسات المقترحة للتعامل معها. غياب هذه الأجندات والسياسات المقترحة هو التحدي الرئيسي لأغلب مكونات المجتمع السوري حاليًا. هناك الكثير من القضايا محل النقاش، فما الذي ينبغي أن يتصدر النقاش؟ وفي حال حدث نقاش، ما هي المطالب أو السياسات المطروحة للتعامل؟
نقطع نصف طريق الحل بمجرد توفر ذلك. قلت لن أتكلم عن الماضي، لكن لو كانت هذه الأجندات واضحة إلى حد ما لساعد ذلك كثيرًا الآن. إذا لم تكن الأجندة موجودة، فهذا تحد كبير يحتاج إلى معالجة. والأفضل أن تبدأ المجموعات المختلفة في إعداد أجندتها الخاصة والتفكير في السياسات المقترحة، فأن تبدأ اليوم خير من أن تبدأ غدًا.
:::::::::::::::::::::::::::::
أحد شروط نجاح الثورة السورية هو قدرتها على تطوير سياسات عامة فاعلة، تشاركية، وإدماجية تستجيب لتحديات المجتمع السوري ومشاكله. تتراجع كثير من التحديات عند مشاركة مجتمعية واسعة في حلها، وإفساح المجال لجهود الأفراد والمؤسسات المجتمعية للتعامل معها. الاعتماد على القائد الملهم، أو التنظيم القوي، أو انتظار الإجراءات الحكومية علامات تدعو للقلق. توجد أكثر من طريقة وأكثر من حل للتعامل مع التحديات الحالية، بدرجات فاعلية وتمثيل مختلفة. لكن إشراك المجتمع هو الاستراتيجية الفاعلة، والخطوة الأولى فيها حث الجميع على تكوين أجندة بمطالب واضحة مقترنة باقتراحات للتعامل معها. في تقديري، ليست النتائج هي أفضل معيار لقياس نجاح المرحلة الحالية. أفضل مقياس هو إيجاد التربة المناسبة لكي تنمو ألف زهرة جديدة ومتنوعة، هذا هو النجاح الحقيقي!
للإطلاع على المقالات السابقة من خلال هذا الرابط


