هذه واحدة من أهدأ الانتخابات التي تمت في تركيا خلال العقود الأخيرة. تسير الأيام إلى الانتخابات المحلية التي ستجري في تركيا يوم الأحد القادم 31 مارس بهدوء لم تعتده تركيا في انتخاباتها خلال العقدين الأخرين. لا تحظى هذه الانتخابات بمتابعة إعلامية خارجية كبيرة لسبب معلوم للجميع وهو حرب غزة المستمرة منذ أكثر من 6 شهور. هذه المأساة الإنسانية المستمرة على الهواء مباشرة تتوارى خلف فاجعتها الإنسانية الكبيرة كثير من الأحداث والتطورات. لكن حتى في السياق المحلي، تبدو هذه الانتخابات "هادئة" بالمقارنة بالانتخابات السابقة. لقد تابعت باهتمام شخصي الانتخابات التركية منذ عام 2002 مع وصول الرئيس الحالي إلى السلطة وبروز نجم حزب العدالة والتنمية، وشاهدت بنفسي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية والاستفتاءات التي تمت في تركيا خلال السنوات الخمس الماضية. في تقديري الشخصي، تبدو هذه الانتخابات أقلهم ضجيجاً. هذا على الرغم من أن نتيجة هذه الانتخابات يمكن أن تؤثر بشكل كبير على المشهد السياسي في تركيا. نتيجة هذه الانتخابات تحدد المرشح الأوفر حظاً في الانتخابات الرئاسية التركية المقبلة. على سبيل المثال، لو تم إعادة انتخاب إمام أوغلو في بلدية اسطنبول، فعلى الأغلب فإنه سيكون مرشح في الانتخابات الرئاسية القادمة وبحظوظ مرتفعة في الفوز. لنتذكر جميعاً أنه طبقاً للإطار الدستوري والقانوني الحالي، لا يحق للرئيس الحالي رجب طيب أردوغان الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة. وهو بنفسه ذكر هذا في تصريح صحفي منذ أيام قال فيه " هذه آخر انتخابات لي، وبموجب التفويض الذي يمنحه القانون، هذه هي انتخاباتي الأخيرة… النتيجة التي ستتمخض عن (الانتخابات) هي نقل الإرث إلى أشقائي الذين سيأتون من بعدي". مع هذه الأهمية، لاتحظى الانتخابات بنفس الحماسة ولا الشد والجذب الذي كان يميز الانتخابات التركية. لماذا؟
واحد من هذه الأسباب أن أردوغان نفسه لا يحاول تصدر المشهد الانتخابي بشكل كبير. في الانتخابات السابقة كان حضور أردوغان طاغياً. هذا الحضور جعل الانتخابات طوال الوقت هي استفتاء حوله وحول استمراره. هذه الانتخابات يتراجع حضور أردوغان بالمقارنة مع الانتخابات السابقة. جزء من هذا التراجع ربما يكون بحكم السن واللياقة. لكن على الأغلب، فإن هذا التراجع ربما يكون سياسة متعمدة. في الانتخابات البلدية السابقة، كانت واحدة من الرسائل التي ألتقطها الحزب من تصويت الناخبين في إسطنبول لصالح مرشح المعارضة إمام أوغلو ضد مرشح الحزب الحاكم المخضرم بن علي يلدرم أن سكان اسطنبول يطالبون أردوغان بالتراجع قليلاً إلى الوراء وترك مساحات للآخرين. كانت نتيجة الانتخابات المحلية السابقة مفاجأة ثقيلة للحزب الحاكم. لذلك عمل على مراجعة ما تم واستخلاص الدروس التي كان أولها: ليتراجع أردوغان قليلاً للوراء وليترك مساحة للمرشح نفسه بالظهور أمام الناس. وهذا ما حدث قبل إعادة الانتخابات مرة أخرى، لكن الناخبين أصروا على اختيارتهم بنسبة أعلى في المرة الثانية!
هل يعني هذا الهدوء أنه لا مفاجأت في الطريق!
حدوث مفاجأة مدوية وغير متوقعة في الانتخابات التركية يغير من المشهد السياسي الداخلي هو أمر تكرر كثيراً في تاريخ تركيا. رسالة الناخبين في إنجاح أمام أوغلو كانت حاسمة في تغيير عدد من سياسات الحزب الحاكم، وهو أمر ساهم بشكل غير مباشر لاحقاً في ترشيد اختيارات الحزب الحاكم السياسية وتحالفاته في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة، كما ساهمت بالقدر نفسه في إعطاء قبلة الحياة لأحزاب المعارضة من أجل محاولة تكرار ما حدث في الانتخابات البلدية السابقة في الانتخابات الرئاسية.
قبل مفاجأة إمام أوغلو قدم الناخبون الأتراك مفاجأة أكبر عام 2003 بانتخاب حزب العدالة والتنمية بعد أقل من سنة على تأسيسه. تبعات هذه الانتخابات وأثارها السياسية لم تنتهي حتى الآن. لقد أدخلت إلى السياسية التركية أكبر الأحزاب السياسية التركية وأكثرها من حيث العضوية، وأطولها في الاستمرار في السلطة: حزب العدالة والتنمية. كما أنها مهدت الطريق لإعادة إدخال أردوغان مرة أخرى إلى قلب السياسية. لقد غيرت تلك الانتخابات الساحة الحزبية والسياسية في تركيا لسنوات.
أيضاً، بعد الإنقلاب العسكري في تركيا عام 1980، وفي أول انتخابات نزيهة تتم بعد الانقلاب اختار الناخبون "المدني" تورجوت أوزال وصوتوا لحزبه حزب "الوطن الأم". نسبة مشاركة في تلك الانتخابات تجاوزت الـ 90%، أما نسبة تأييد حزب الوطن الأم فقد تجاوزت ال40%. الجدير بالذكر أن أوزال كان قد ترشح في الانتخابات البرلمانية قبل الإنقلاب العسكري لكنه لم يستطع الفوز فيها! تورجوت أوزال المدني الذي اختاره الأتراك في أول انتخابات بعد إنقلاب عسكري أصبح رئيس الوزراء لمرتين متتاليتين ثم رئيس للجمهورية. قام خلال هذه الفترة بتغيرات كبيرة في الاقتصاد اعتبرها البعض البنية التحتية التي مهدت لبروز حزب العدالة والتنمية فيما بعد. سعى أيضاً لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو القرار الذي سيشكل الكثير من المسار السياسي التركي بعد ذلك. كما أنه قام بإجراء تغييرات إصلاحية في الاقتصاد والبيروقراطية.
هناك أيضاً المثال المشهور لعدنان مندريس وحزبه، لن أذكر الكثير من التفاصيل عنه وعن طريقة انتخابه ثم طريقة إعدامه، في تقديري أن أغلبكم قد سمع بها.
فقرة في حب "الصندوقراطية"!
تشير الفقرات السابقة أن فكرة حدوث مفاجأة مدوية يقلب بها الناخبون الأتراك الطاولة ويقوموا من خلالها بالميل إلى خيار انتخابي استراتيجي يغير المسار الحالي هو أمر يظل وارد. توقع البعض حدوث هذه المفاجأة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية في العام الماضي، خاصة أنها تمت بعد زلزال مدمر، والمشهور في السياسة التركية أن الأحزاب التركية تفقد مقعدها في السلطة بعد الزلازل الكبيرة. لكن هذا لم يحدث. وتوقعه البعض في نفس الانتخابات بسبب مرور مئة عام على تأسيس الجمهورية التركية ورغبت الأتراك في التغيير. لكن هذا لم يحدث. فهل تحمل هذه الانتخابات المحلية مؤشرات على حدوث مفاجأت مدوية؟
لا أستطيع أن أمنع نفسي من إيراد ملاحظة سريعة قبل الإجابة عن هذا السؤال. ملاحظة طالما ذكرتها كثيراً وربما حان وقت كتابتها لعل أحد أن ينتفع بها. "إجراء انتخابات بشكل دوري ومستمر تحمل شكل الحد الأدنى من الانتخابات الذي هو صندوق + إحصاء الأصوات + إعلان النتيجة هي أمور على قلتها وضعفها كافية في كثير من البلدان لإحداث تغييرات كبيرة في السياسة والاقتصاد حتى لو غابت الكثير من الحقوق والحريات الأخرى"
القارئات والقراء الكرام…لا يعني كلامي هذا أني أقول أن الديموقراطية هي صندوق الانتخابات أو أنني أدعو لذلك. ما أقوله تحديداً هو أن صندوق الانتخابات، ذلك الشكل البسيط والاختزالي والذي لا يمثل جزء بسيط ومتواضع من منظومة الحقوق والحريات، في حال تواجده فإنه يمثل إمكانية لحدوث تغيرات كبيرة. هذا كان واضحاً في الحالة التركية في مراحل سابقة، وواضح بشكل كبير في حالات متعددة في دول أمريكا الجنوبية. لقد صدعنا الباحثون والأكاديميون والصحفيون في نقد "الصندوقراطية" واعتبار أن الديموقراطية هي صندوق إنتخابات وفقط. نقد محترم وموضوعي، لكن يظل وجود "صندوق الانتخابات" سبب لتجنب الوصول إلى استخدام "صندوق البارود". وربما نعود للحديث حول هذه النقطة لاحقاً. لنعد الآن إلى السؤال الرئيسي: هل تحدث مفاجأة في الانتخابات المحلية في تركيا هذا العام؟
التوقعات النهائية
الإجابة الدبلوماسية، لا يمكن استبعاد حدوث مفاجآت. ثم أضيف لها إجابة دبلوماسية أخرى إن حسبة الانتخابات المحلية مختلفة عن الانتخابات البرلمانية والرئاسية حيث يميل الناخبون في الانتخابات المحلية للتصويت بناء على الخدمات والأنشطة المحلية والعلاقات الشخصية وليس بناء على البرامج الحزبية والسياسية. لكني لن أكتفي بالإجابات الدبلوماسية. إذا حاولت ولوج بحر التوقعات وليس الصعود إلى سماء التنبؤات …لأن بين التوقع والتنبؤ فرق كبير، فيمكنني القول إنه على الأغلب، ستعود بلدية اسطنبول إلى حزب العدالة والتنمية، وعلى الأغلب تستمر بلدية أنقرة مع حزب المعارضة الرئيسي حزب الشعب الجمهوري، وعلى الأغلب سيحدث خفض في قيمة العملة التركية في غضون أسابيع قليلة بعد الانتخابات المحلية. ولأكون أكثر تحديداً فإن اتجاه تصويت الأكراد في اسطنبول والنسبة التى سيحصل عليها حزب الرفاه الجديد من أصوات الناخبيين في نفس المدينة هما العاملان الأكثر تأثيراً في معرفة الفائز في اسطنبول.
لكن هذه مجرد توقعات شخصية لمراقب خارجي ، ويظل القرار الأخير بيد الشعب التركي. والله أعلم.