أثبتَ الأيامَ أنَ أمرينِ على الأقلِ مما قمنا بتحليلهِ وتوقعهِ في آخرٍ مقالينِ منْ هذهِ النشرةِ التي أقومُ بإصدارها بشكلٍ منتظمٍ قدْ أثبتتْ الأيامُ صحتهمْ. الأولَ هوَ أنَ قرارَ حركةِ المقاومةِ لبدءِ طوفانِ الأقصى كانَ قرارا داخليا للحركةِ وتمَ بشكلٍ مستقلٍ ولمْ تكنْ تعلمَ بهِ إيران ولا حزبَ اللهِ قبلَ بدءِ الحربِ. أيدَ ما قلناهُ تصريحَ حسنْ نصرْ اللهْ الأمينِ العامِ لحزبِ اللهِ في خطابهِ المطولِ يومُ الجمعةِ الماضيَ. الأمرُ الآخرُ الذي حدثَ للأسفِ كما توقعنا هوَ بدءُ الاجتياحِ البريِ لقطاعِ غزةَ. لكنَ حدوثَ ما توقعناهُ يدفعني للتأكيدِ على أمرينِ :
التأكيد الأولِ هوَ أنَ لا يتعاملُ أحدٌ معَ ما أكتبهُ هنا أوْ ما يكتبهُ أيُ باحثِ أوْ محللِ بشكلٍ عامٍ باعتبارهِ حقائقَ وأمورٍ مسلمٍ بصحتها . ما أدافعُ عنهُ هوَ العكسُ منْ ذلكَ تماما . أتمنى متابعي هذهِ النشرةِ التي تحاولُ أنْ تكونَ أسبوعيةً أنْ يتعاملوا معَ ما تتمُ كتابتهُ داخلَ هذهِ النشرةِ بحسٍ نقديٍ مرتفعٍ . وأنَ تكونَ التحليلاتِ والآراءِ التي تتمُ كتابتها فرصةً للنقاشِ والحوارِ حولها لتطويرها أوْ تعديلها ، وليسَ التعاملُ معها على أنها صوتَ الخبراءُ والمتخصصينَ والباحثينَ . لا ينبغي أنْ نميلَ إلى تصديقِ أيِ تحليلاتٍ أوْ كتاباتٍ دونَ النظرِ في منطقها، وأدلتهُا ، وطريقهُ الاستدلالُ . لتحويلِ ما أقولُ إلى تدريبٍ عمليٍ، فيمكنُ لأيٍ منْ حضراتكمْ العودةِ إلى آخرَ مقالينِ وإعادةَ قراءتهمْ بشكلٍ نقديٍ مرةً أخرى لنكتشفَ معا نقاطَ الضعفِ، أوْ لتطويرِ ما تمتْ كتابتهُ. أوْ ليختارَ أيُ منكمْ مقالاً أوْ تحليلاً ولنقمْ بالتعاملِ معهُ بشكلٍ نقديٍ ولنرى ما الذي يمكنُ أنْ نصلَ إليهِ .
الأمر الآخرِ الذي أحبَ التنويهُ عليهِ ، هوَ أنهُ ليسَ منْ وظيفةِ المحللِ التنبؤِ بالمستقبلِ أصلاً Prediction وأنَ أقصى ما يمكنُ أنْ يصلَ إليهِ هوَ التوقعُ Expectation . فرقٌ كبيرٍ بينَ الإثنينِ. عموما ، هذا نقاشٌ طويلٌ حولَ قدراتِ العلومِ الاجتماعيةِ، لكنَ أميلَ أنَ أنهُ أهمُ منْ التنبؤِ أوْ التوقعِ هوَ القدرةُ على قراءةِ الواقعِ الحاليِ منْ زوايا مختلفةٍ، وبأدواتٍ متعددةٍ. الفهمُ الواسعُ والمتنوعُ والعميقُ لهذهِ الواقعِ الحاليِ هوَ الذي يمكنُ أنْ يساهمَ في خلقِ مستقبلِ أفضلَ. أما التركيزُ على التنبؤِ بالمستقبلِ فليسَ هدفٌ أصيلٌ للباحثينَ ولا يجبُ أنْ يكونَ كذلكَ. يمكنَ أنْ يكونَ هدفُ للمضاربينَ أوْ الباحثينَ عنْ الشهرةِ. أما الفهمُ فهوَ الهدفُ الأساسيُ للباحثينَ. هذهِ مقدمةٌ طويلةٌ نوعا ما، لكنها أساسيةٌ قبلَ الولوجِ إلى الجزءِ الثاني منْ هذهِ النشرةِ .
السيناريوهات المستقبلية
اتفقنا أنَ الحديثَ عنْ المستقبلِ في حدِ ذاتهِ ليسَ لهُ أهميةٌ كبيرةٌ. ما يهمنا هوَ فهمُ الواقعِ الحاليِ بشكلٍ جيدٍ. هناك إشارات واضحة على أنَ دولةَ الاحتلالِ الإسرائيليِ تعملُ حاليا على فصلِ شمالَ قطاعِ غزةَ عنْ جنوبهِ، ثمَ التركيزِ بشكلِ أكبرَ معَ الشمالِ لفترةٍ منْ الوقتِ . تسعى هذهِ الاستراتيجيةِ لتحقيقِ عددٍ منْ الأهدافِ، منها :
الوصولُ إلى عددٍ منْ قياداتِ المقاومةِ وعلى رأسهمْ يحيَ السنوارْ الذي يبدو منْ خلالِ تصريحاتِ قياداتِ الاحتلالِ أنَ الوصولَ إليهِ أصبحَ أولويةً لديهمْ.
الوصولُ وتدميرُ قدرٍ كبيرٍ منْ الأنفاقِ ومحاولةِ خفضِ قدرةِ المقاومةِ على الاشتباكِ أوْ إطلاقِ الصواريخِ منْ شمالِ القطاعِ .
الاستمرارُ في دفعِ قطاعٍ واسعٍ منْ سكانِ غزةَ للذهابِ جنوبا ، وإفقادهمْ الأملُ في العودةِ قريبا إلى ديارهمْ ، وهوَ ما يصبْ في هدفِ الدفعِ بتهجيرِ عدد كبيرٍ منْ الفلسطينيينَ إلى جنوبِ القطاعِ منْ أجلِ العملِ لاحقا على دفعهمْ خارجَ القطاعِ .
تبدو المقاومةُ صامدةً حتى الآنَ، وهناكَ قدرةٌ على الاشتباكِ وإلحاقِ أضرارٍ واسعةٍ بالمحتلِ. لكنها غيرُ قادرةٍ علَ إيقافِ هذا التقدمِ أوْ عرقلتهِ لوقتٍ طويلٍ. على الأغلبِ ، تطويقُ دولةِ الاحتلالِ لشمالِ قطاعِ غزةَ ثمَ العملِ على السيطرةِ عليهِ هيَ مسألةُ وقتِ للأسفِ. على الجانبِ المقابلِ، تبدو استراتيجيةَ المقاومةِ مبنيةً على النفسِ الطويلِ، وتخفيضَ أوْ رفعِ مستوى المقاومةِ حسبَ الظروفِ المتاحة. لذلكَ لنْ يكونَ مفاجئا مثلاً لوْ انخفضتْ وتيرةَ عملياتِ المقاومةِ في الأيامِ القليلةِ القادمةِ بالمقارنةِ بما تمَ خلالَ الأسبوعِ الماضي. ولنْ يكونَ مفاجئا أيضا إذا عادتْ فجأةَ للارتفاعِ مجددا بعدَ أسبوعينِ. فخلال هذا الوقت، يمكنَ أنْ تعيدَ المقاومةُ التمركزَ ، وإعدادَ خططٍ جديدةٍ للتعاملِ معَ القواتِ المحتلةِ وهيَ متواجدةٌ على الأرضِ بالفعلِ.
يمكنَ أنْ تحدثَ هدنةً لفترةٍ مؤقتةٍ أوْ يتمُ الدفعُ لإدخالِ جزءٍ منْ المساعداتِ أوْ الوقودِ الذي لنْ يكونَ كافيا بالتأكيدِ لتلبيةِ احتياجاتِ السكانِ الأساسيةِ، لكنهُ سيكونُ كافيا لإبقاءِ جزءٍ منْ المستشفياتِ أوْ المؤسساتِ المدنيةِ تعملُ لكنْ بالحدِ الأدنى لها. هذا هوَ ما تطمحُ دولةَ الاحتلالِ لتحقيقهِ على الأغلبِ.
الوضعُ بهذا الشكلِ لا يدعو للتفاؤلِ على المدى القصيرِ .
مالذي يمكن أن تقوم به مصر؟
الاعتبارات الإنسانيةِ وروابطُ الأخوةِ والتاريخِ والدينِ والعروبةِ يجبُ أنْ تحكمَ تحركَ مصرَ الحاليِ تجاهَ ما يحدثُ في الأراضي الفلسطينيةِ . لكنْ حتى لوْ تمَ تنحيتُ هذهِ الاعتباراتِ كلها جانبا ، وتمَ التعاملُ معَ ما يحدثُ على الأراضي الفسطينية المحتلةَ منْ زاويةِ المصالحِ المصريةِ الوطنيةِ الضيقةِ وفقطْ ، فيوجد على الأقلِ أربعةَ أهدافٍ أساسيةٍ يمكنُ أنْ تعملَ عليها مصرُ في هذا الموضوعِ :
الهدفُ الأولُ والأساسيُ هوَ وقفُ إطلاقِ النارِ الآنِ وسريعا . لوْ كانَ لدولةٍ واحدةٍ فقطْ أكبرَ مصلحةٍ في وقفِ إطلاقِ النارِ فهيَ مصرُ . لعبتْ مصرُ هذا الدورِ سابقا مرارا ، لكنْ لا توجدُ مؤشراتٌ حاليةٌ تشيرُ إلى لعبِ مصرَ دور نشطٍ وقوى وضاغطٍ تجاهَ تحقيقِ هذا الهدفِ . الغوصُ في أسبابِ هذا الضعفِ يجرنا إلى تحليلاتٍ كثيرةٍ لا يوجدُ ما يؤكدها ، أوْ تسريباتٍ لا يمكنُ التأكدُ منْ صحتها . في كلِ الأحولِ ، وقفُ إطلاقِ النارِ مصلحةً لمصر ربما بنفسِ مقدارِ مصلحتهِ للفلسطينيينَ .
الهدفُ الثاني هوَ فتحُ معبرِ رفحْ وإدخالِ الموادِ الأساسيةِ اللازمةِ لسكانِ القطاعِ بمعدلاتٍ كافيةٍ ومستدامةٍ تزيدُ عنْ المعدلاتِ ما قبلَ بدءِ العدوانِ . تحقيقُ هذا الهدفِ هوَ خطُ الدفاعِ الأولِ ضدَ عملياتِ التهجيرِ المحتملةِ ضد الفلسطينيينَ ، أما عدمُ تحقيقهِ فيشيرُ إلى أنَ فرصَ التهجيرِ ترتفعُ معَ الوقتِ .
الهدفُ الثالثُ مترتبٌ على الهدفينِ السابقينَ وتحسينِ جودةِ الحياةِ داخلَ القطاعِ . لمصر مصلحةً واضحةً منْ بقاءِ واستمرارِ الفلسطينيينَ على أرضهمْ . حتى نظامٍ مباركٍ كانَ مقتنعا بهذا الهدفِ ، لذلكَ سمحَ بوجودِ الإنفاقِ تهريبَ البضائعِ والاحتياجاتِ الأساسيةِ للقطاعِ لضمانِ استمرارِ الحياةِ هناكَ بشكلٍ جيدٍ .
الهدفُ الرابعُ والأخيرُ هوَ دعمُ المقاومةِ الموجودةِ في القطاعِ التي تقومُ بها الفصائلُ الفلسطيننة المختلفةَ . ينبغي التذكيرُ هنا أنَ الاختلافَ الأيديولوجيَ بينَ النظامِ في مصرَ وبينَ حركةِ المقاومةِ الإسلاميةِ على سبيلِ المثالِ لمْ يمنعهمْ منْ التعاونِ سابقا وفي مواضعَ مختلفةٍ ، وفي مواقيتَ مختلفةٍ . لدينا سجلُ منْ التعاوناتِ السابقةِ التي تشيرُ إلى براجماتيةٍ واضحةٍ منْ الطرفينِ ، خاصةً عندَ تقاطعِ المصالحِ . وهوَ ماياني إلى أنَ هذا الأمرِ يمكنُ أنْ يحدثَ مستقبلاً كما حدثَ سابقا .
السياسات العامة تحت الاحتلال
تعيد الأحداث الحالية التذكير بأن عالمنا العربي يوجد به سياق يتميز بعدد من الخصائص التي يصعب تكرارها في سياقات أخرى. أنا مهتم بالسياسات العامة... والتطهير العرقي الدائر حاليا في غزة أعاد تذكيرا بسؤال تكرر في ذهني كثيرا: كيف تتم صناعة السياسات العامة في ظل الاحتلال؟ عندما تكون المياه والكهرباء والاتصالات ودخول وخروج البضائع والأشخاص، وحركة الأموال كلها تتم في ظل سلطة احتلال لا يلتزم بأي مواثيق أو اعتبارات دولية، فكيف يمكن أن يعمل المسؤول الحكومي أو تتحرك المجتمعات بطريقة فعالة لمجابهة التحديات والمشاكل العامة؟
هذا السؤالِ حاولتْ طرحهُ بشكلِ أكثرِ عمليةٍ منْ خلالِ تضمينهِ ضمنَ كتابِ " حالات دراسية عربية " الذي قمتُ بتحريرهِ والذي سيصدرُ قريبا منْ معهدِ سياساتِ وبمشاركةِ طلابِ منْ دولٍ عربيةٍ عديدةٍ ومشتملاً على 5 حالاتٍ دراسيةٍ منْ ثلاثِ دولٍ عربيةٍ . يوجد ضمنَ الحالاتِ الدراسيةِ داخلَ هذا الكتابِ حالةً قامَ بكتابتها طلابُ منْ قطاعِ غزةَ تتضمنُ عرضا لتحدي ارتفاع معدلات البطالةِ في القطاعِ التي تواجهُ المسؤليينْ التنفيذيينَ هناكَ في ظلِ الانقساماتِ السياسيةِ وفي وجودِ اعتباراتٍ أمنيةٍ وتضيقُ إسرائيلي. الطلابُ الذينَ قاموا بكتابةِ الحالةِ عرضوا عليا المشكلةِ الموجودةِ في القطاعِ راغبينَ في الاستماعِ لحلولٍ لها. فاقترحتْ عليهمْ أنْ نكتبها في صيغةِ حالةٍ دراسيةٍ تكونُ متاحةً لكلِ الناطقينَ باللغةِ العربيةِ وأنْ تنتهيَ قبلَ اتخاذِ القرارِ النهائيِ . ولنحفز القراء على المشاركةِ في إيجادِ حلٍ لهذهِ المشكلةِ التي تواجهُ الفلسطينيينَ .
أخيرا ، قبلُ أنْ أنهيَ هذا العددَ ، شاهدتْ هذا الأسبوعِ المحاضرةِ الأخيرةِ جونْ ميرشايمرْ حولَ الحربِ في غزةَ ( الرابطَ ) . لوْ كانَ لدى أحدِ منكمْ اقتراحٍ بمحاضرةِ شبيبةٍ لكنْ منْ منظورٍ مختلفٍ للصراعِ الحاليِ ، فأسعدَ باستقبالِ هذهِ الاقتراحاتِ .
أترككم في أمان الله.