هذا اليوم لا أنساه، هو السبب في اختياري للتخصص كطبيب أشعة تشخيصية. حدث في هذا اليوم أكثر من واقعة ساهمت في الوصول إلى هذا القرار، لكني سأذكر واقعة واحدة فقط نهايتها غير متوقعة.
داخل غرفة الكشف
قام المدرس المساعد المتخصص في الأشعة التشخيصية بإنهاء فحص بالأشعة التلفزيونية على خصية مريض، كان بالمصادفة طبيبًا بشريًا. بعد نهاية الفحص، قال المدرس المساعد الذي كان قد أنهى لتوه امتحان الماجستير بنجاح في القصر العيني، وكان يُنظر إليه على أنه أحد الوجوه الصاعدة بقوة داخل القسم في القصر العيني بسبب خلفيته الأكاديمية القوية، والخبرة المهنية الجيدة جدًا. كان هناك أمور أخرى غير أساسية لكنها تساعد على تكوين هذه الصورة لكونه "ناجحًا". فقد كان طويلًا رياضيًا رشيقًا، ومحاطًا بالعديد من النساء الراغبات في القرب منه، ووسط مراكز الأشعة الخاصة كان يبدو كنجم تتنافس مراكز الأشعة لجذبه للعمل لديها. أنهى المدرس المساعد الفحص وقال للمريض: إنه لا يوجد شيء يدعو للخوف. الجسم الموجود في خصيتك شكله لا يحمل الخصائص الشائعة للأورام الخبيثة. لقد أشارت الأشعة التلفزيونية إلى أن هذا الجسم مستدير بشكل جيد، أطرافه واضحة ومحددة. هذه خصائص تشير في الأغلب إلى أن هذا الجسم هو "حميد" ولا ينتمي على الأغلب للأورام الخبيثة. اطمئن!
لحظات مصيرية
كنت في مرحلة الامتياز بعد إنهاء بكالوريوس الطب والجراحة، وكنت بجانب المدرس المساعد وهو يقول هذا الكلام. بالنسبة لي، هذه فرصة ثمينة للتعلم داخل قسم الأشعة التشخيصية في قصر العيني، وهي فرصة ربما لن تتاح لي لاحقًا. خرج المريض من غرفة الكشف، وأثناء خروجه كانت لحظة دخول واحد من أمهر أساتذة قصر العيني في الأشعة التشخيصية، وتحديدًا في الأشعة التلفزيونية والدوبلر. طلب المريض الطبيب من هذا الأستاذ الكبير أن يعيد الكشف عليه مرة أخرى متشفعًا بكونه "زميل" مهنة واحدة. وافق الأستاذ الكبير ودخل المريض الطبيب للغرفة للكشف للمرة الثانية على خصيتيه. هذه المرة كانت الغرفة مليئة بعدد من الأطباء الراغبين في التعلم من هذا الأستاذ الكبير... كنت أقف في آخر الغرفة أشاهد شاشة الأشعة التلفزيونية بصعوبة خلف عدد من النواب والمدرسين المساعدين الواقفين خلف الأستاذ الكبير الذي يقف بجواره المدرس المساعد الذي قام بإجراء الفحص الأول. ما جرى بعد ذلك ساهم في تغيير مساري، ومسار المريض... وعلى الأغلب مسارات الواقفين جميعًا!
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
العلاقة بين الطبيب والمريض أحد المواضيع الشائكة. تراجع الثقة في كلام الأطباء وتصرفاتهم ظاهرة يمكن أن نجدها بسهولة في دول مختلفة داخل وخارج العالم العربي. لم يكن الوضع هكذا في الماضي. قبل مئة سنة لم يكن يجرؤ المريض على الأغلب لنقاش الطبيب في تشخيصه أو علاجه. كان يتم التعامل مع هذه الأمور بكثير من التسليم، سواء كان هذا التسليم مصحوبًا بالثقة أم بغيرها. السائد وقتها كان التساؤل كيف يمكن لمريض لا يعلم أي شيء عن الطب والتطبيب أن يقوم بـــ"الفتوى" فيما لا يعلم. هذا منطق لا يزال يتكرر كثيرًا بالمناسبة. اتركوا الطب للأطباء، اتركوا الاقتصاد للاقتصاديين، اتركوا الحرب للعسكريين، اتركوا السياسة للسياسيين… إلخ.
شكل العلاقة في هذا الحالة مبني على "سلطة" موجودة لدى الطبيب. هذه السلطة لا ترتبط بوجود "سلاح" في يد الأطباء ولكن بوجود "العلم" في عقولهم، أو هكذا هو الافتراض. سنطيع كلام الأطباء وتوصياتهم لأن لديهم السلطة التي تؤهلهم للتواجد في هذه المكانة: سلطة العلم. لو قال المريض للطبيب في هذه الحالة إنه لا يريد هذا العلاج، أو لماذا ستقوم بإجراء عملية جراحية بدلًا من أخذ دواء، أو استفسر عن إمكانية وجود تشخيص آخر بديل، في الأغلب سوف يقابل بالرفض من طرف الطبيب، أو الرد الجاف.
يتم تبرير هذا السلوك بأن الفجوة المعرفية بين الطبيب والمريض كبيرة لدرجة أنه لا يمكن في بعض الأحيان المقارنة بينهما. في طرف مريض لم يتعلم القراءة والكتابة، يعمل في فلاحة الأرض، لم يخرج من قريته لأي مدينة من قبل، في حين أن في الطرف الآخر طبيب أتم شهادة جامعية، وربما سافر للخارج لإتمام دراسات عليا أو تعلم بلغة أجنبية في أحد التخصصات الطبية، ويشارك في العمل والتطبيب في أماكن مختلفة. كيف يمكن المقارنة بين الطرفين؟ لا يمكن تخيل أن يقوم الطرف الأول بالاستفسار فضلًا عن مساءلة ما يقوم به الطرف الثاني؟
ربما يكون سبب رئيسي في قبول الأستاذ الجامعي المشهور إعادة الكشف على المريض، وقبول المدرس المساعد هذا التصرف على مضض كون المريض "طبيبًا". الخلفية التعليمية والاقتصادية المرتبطة بكون المريض طبيبًا هي التي رفعته في الأغلب عددًا من الدرجات إلى أعلى لتجعل مسائلته للطبيب المعالج وقراراته مقبولة إلى حد. فكروا كيف ستكون النتيجة لو كان هذا المريض فلاحًا، أو صعيديًا… أو فلاحة أو صعيدية!
يقول بعض القراء الآن إن هذه الأوضاع تغيّرت. قطاعات واسعة حاليًا تُسائل الأطباء، وتطلب منهم عرض الأدلة التي تؤيد تشخيصهم، وتناقشهم في الخيارات المتاحة للعلاج، ولا ينتهي الكشف إلا بتوافق بين الطبيب والمريض. هل كان يتخيل أحد من مئة عام أن يحدث هذا؟ السؤال الأهم: لماذا حدث هذا؟
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
داخل غرفة الكشف: الفحص الثاني
داخل غرفة الكشف، بدأ الأستاذ الدكتور الجامعي في توجيه حديث للأطباء والطبيبات الواقفين خلفه الراغبين في التعلم منه. بمجرد أن وضع جهاز الفحص على خصية الطبيب المريض، ظهر الورم واضحًا على الشاشة بلا لبس. الأستاذ الدكتور بدأ في الشرح التفصيلي للأطباء الواقفين، وكأن المريض غير موجود. هذا الجسم الغريب الواضح أمامنا على الشاشة يجب أن يدفعنا للسؤال: هل هو حميد أم خبيث؟ كيف يمكن أن نعرف ذلك من خلال الفحص بجهاز السونار/ الأشعة التلفزيونية؟
ذكر الواقفون عددًا من المؤشرات التي تشير إلى أن هذا الورم في الأغلب هو جسم حميد. ذكروا الخصائص التي ذكرناها في بداية المقال وكانت كلها تقريبًا واضحة أمامنا على الشاشة. كتلة محددة المعالم، صلبة القوام، تختلف عن الأنسجة المحيطة بها، لكنها لا تُظهر بداخلها أي تشوهات أو أشكال غير طبيعية أو تكلسات. تبدو الكتلة متناسقة إلى حد كبير للناظرين إليها. بعضهم قال كلامًا يؤكد تشخيص المدرس المساعد: هذه كتلة حميدة على الأغلب فلا داعي للقلق.
بعد أن انتهت التعليقات، قال الأستاذ الجامعي: هل استخدمت الدوبلر في الكشف؟ رد المدرس المساعد بالنفي. أشعل الدوبلر فبدت أطراف الكتلة على الشاشة مضيئة باللون الأحمر المتقطع. هذا مؤشر على أن هناك زيادة في الأوعية الدموية المحيطة بالكتلة وخاصة على الأطراف. بدأ الأستاذ الكبير الشرح: لا تنخدعوا بالمظهر "الحميد" لهذه الكتلة، فأورام الخصية في الرجال لها مظهر خادع في الأشعة التلفزيونية. تبدو حميدة لكنها في أصلها خبيثة. لو اكتشفناها في البداية فنسبة التعافي مرتفعة جدًا، أما لو خدعتنا هذه المظاهر فالنتيجة أن ينتشر الورم في كل مكان، ووقتها يفقد المريض فرصة النجاة.
الكلام أدى إلى صمت عميق بين النواب والمدرسين المساعدين الواقفين، وإلى علامات انتباه شديدة وتوجس لدى المريض، وعلامات تفكر على وجه المدرس المساعد. وجه الأستاذ الكبير كلامه إلى الطبيب المريض:
يا دكتور، الجسم الموجود في الخصية فيه علامات خادعة تدل على أنه حميد في الأشعة التلفزيونية، لكن الدوبلر يشير إلى أنه خبيث. أورام الخصية في الرجال هي أورام نادرة لكنها تأخذ شكل خادع في الأشعة التلفزيونية وممكن تضللنا. مش هنقدر نقرر بشكل أكيد إلا لما نأخذ عينة منه. أنا في تقديري، هذا ورم خبيث لكنه لا يزال في البداية، ففرصة النجاة مرتفعة جدًا ولا داعي للخوف. التأكيد الحاسم سيكون من خلال أخذ عينة. أنا عارف أن المدرس المساعد قال لك إن دا ورم حميد ولا داعي للقلق، ولم يطلب منك عمل أي فحوصات أخرى، لكن أنا بقول لك إن دا مش صحيح، والأفضل نأخذ عينة.
وجه المريض الطبيب الذي كان ينصت للحوار من بدايته أخذ ملامح شديدة الجدية. علامات القلق كانت قد ظهرت في وجهه في بداية الكشف، لكنه الآن ربما كان يفكر أن الله أرسل له هذا الأستاذ الكبير لكي يعطيه فرصة عمر أطول في هذه الحياة. لكن المفاجآت لم تنته بعد.
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
في هذه الأيام، يحصل الأطباء على ثقة مرضاهم عبر استخدام استراتيجيات التسويق الحديثة. تراجع الحديث بشكل كبير عن "سلطة" الأطباء بفضل العلم، وحل محلها سلطة آليات السوق المتمثلة في "التسويق". لدى عدد كبير من الأطباء الآن فريق تسويق يساعدهم في الوصول إلى مرضى أكثر، وتحقيق شهرة ومال ومجد أكبر. بدون استراتيجيات التسويق، يغيب عن الأنظار حتى أكثر الأطباء خبرة وعلمًا.
أستغرب بشكل شخصي كيف يقوم الناس باختيار أطبائهم في هذه الأيام. هذا عيادته ممتلئة دائمًا، هذا شاهدت له فيديو على الفيس بوك، هذه تتعامل بلطف مع المرضى وعيادتها أنيقة وديكورها جيد، ... الخ. أمور لا علاقة لها بخبرة الأطباء أو معارفهم. تخيلوا أن هذا قد يحدث في تخصصات لا تحتمل الهزل: الجراحات الخطيرة، أمراض القلب، وفي علاج الأورام، هذا لعمري شيءٌ عجاب!
في عالم التسويق، المريض هو "عميل" يقارن بين البدائل والخيارات حتى يشتري المنتج أو الخدمة الأفضل. معايير الأفضلية لدى العميل لا تقترن بالضرورة بالخبرة، بل يمكن أن ترتبط بالتغليف والعرض والألوان المستخدمة. يمكن الحصول على ثقة هذا العميل/المريض بإبراز الشهادات التي حصل عليها الطبيب، أو بإظهار الحالات السابقة التي قام بعلاجها، أو بإظهار الشهرة الكبيرة التي يحظى بها. لكن يمكن استخدام وسائل تسويقية أخرى إذا كانت ستؤدي إلى ارتفاع في المبيعات وكسب عملاء جدد. بعض الأطباء الآن انقلبوا إلى "سلعة" يتم الترويج لها. عالم غريب، من كان يحلم أن نصل إليه!
ساهم انتشار التعليم وظهور الطبقة المتوسطة في ردم جانب كبير من الهوة بين الأطباء والمرضى. يمكن أن يعالج الأطباء مرضى لديهم تعليم جامعي جيد، أو خلفية اجتماعية مرتفعة. في هذه الحالات يجد الأطباء أنفسهم في موضع يحتم عليهم مشاركة المعرفة التي لديهم مع المرضى وتبرير التشخيص أو الاختيارات التي يفضلونها لمرضاهم. بعض المرضى حاليًا لديهم الحد الأدنى من المعرفة والقدرات الذهنية لاستيعاب ذلك. كان التصور أن يستمر هذا النمط من العلاقة بين الأطباء والمرضى حتى تتحول العلاقة إلى علاقات "أفقية" بدلًا من نمط العلاقات "الرأسية" القديم.
كان المتوقع أن يظل الطبيب في مكان أعلى بحكم الخبرة والعلم، لكن ليست أعلى كثيرًا عن المرضى. لذلك سيقوم الطبيب بالشرح لهم، وتخييرهم في القرارات المتاحة، ويكون نتيجة القرار النهائي في العلاج محصلة النقاشات بين الطبيب والمريض التي أدت إلى حل مناسب للطرفين معًا، حتى لو لم يكن هذا الخيار هو الاختيار الأفضل. رغبات المريض هنا وتفضيلاته يصبح لها أهمية أكبر عند اتخاذ القرارات المهمة في العلاج، على عكس ما كان يحدث في السابق. هذا نمط ينتشر لكن ليس بنفس سرعة انتشار نمط التسويق. التسويق الآن يقتحم عالم الطب بشكل متسارع، والنتائج المترتبة على ذلك غير متوقعة.
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
نقاش في غرفة داخل استقبال قصر العيني
في مساء نفس اليوم، جلس عدد من النواب والنائبات في الغرفة المخصصة لقسم الأشعة في قسم استقبال قصر العيني. المفاجأة أن بعضهم كان معترضاً على تشخيص الأستاذ الكبير ويراه تشخيصاً خاطئاً أو غير دقيق. قبل الاسترسال، يجب التذكير أن الفرق بين النائب في قصر العيني وبين الأستاذ الجامعي لا يقل عن 5 إلى 7 سنوات على الأقل من الخبرة. بالإضافة إلى أن النائب لم يحصل على الماجستير بعد، في حين أن هذا الأستاذ حصل على الماجستير ثم الدكتوراه. فرق ملحوظ في العلم والخبرة، لكن إحدى النائبات كانت مصرة أن الأستاذ المشهور خاطئ في تشخيصه. لماذا؟
حجتها أنه مثلما أن شكل الورم الخبيث مضلل في الأشعة التلفزيونية، فشكله مضلل أيضاً أثناء استخدام الدوبلر. كثرة الأوعية الدموية حول ورم ما تعني في الأغلب أنه ورم خبيث، لكن هذا لا ينطبق على أورام الخصية. نقاشها كان مبنياً على أوراق علمية منشورة حديثاً تؤكد ما ذهبت إليه. دخول النواب في نقاش حول تشخيص الأساتذة هو أحد الطرق التي يطور من خلالها النواب معارفهم ومهاراتهم في التفكير الطبي. لكن الاعتراض على واحد من أشهر أساتذة طب قصر العيني في مجال الأشعة التلفزيونية والدوبلر وتشخيصه لم يكن بالقرار السهل. أغلب الموجودين تعاملوا مع ما قاله على اعتبار أنه صحيح ولا يحتاج إلى مزيد بحث. آخرين، وكانوا قلة، رأوا أن طريقة التفكير تلك ليست دقيقة، وأن الأبحاث الجديدة لا تؤيد الاستنتاج الذي وصل إليه. أحد المعترضين قال إنه سيحضر ورقة علمية محكمة تؤكد ما يقوله في أن الدوبلر غير حاسم في تحديد نوع الورم: خبيث أم حميد. نبرة التحدي كانت واضحة. لكن الصمت خيم في نهاية الحديث.
كم هم عظماء هؤلاء النواب والنائبات، داخل غرفة في استقبال قصر العيني، وما أدراك ما استقبال قصر العيني في هذا الوقت، وتحت ضغط عمل ومرضى، وبعد يوم طويل. لكن هذا لم يمنع من انطلاق نقاش معمق وقوي بأساس علمي متين داخل هذه الغرفة الضيقة. بالنسبة لي، فتحت أمثال هذه الحوارات نافذة على ما أريد التخصص فيه: المجال الذي يقارن ويفاضل بين الخيارات المختلفة، ويفكر بطريقة منهجية من أجل مساعدة الطبيب والمريض معاً في الوصول إلى التشخيص الحقيقي لما يعانيه المرضى: الأشعة التشخيصية.
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
بين الفاعلية والتمثيل: فاعلية الخبراء مقابل تمثيل المواطنين
توجد نقاشات شبيهة في السياسات العامة عند تحديد مشكلة ما مثل ارتفاع نسبة البطالة. يتساءل البعض عن ضرورة إشراك العاطلين عن العمل وأهاليهم في تحديد وتحليل واختيار السياسات العامة المطروحة لحل هذه المشكلة، أم أن الطريقة الأمثل هي ترك هذا الأمر للمتخصصين في الاقتصاد والتنمية.
إذا شارك العاطلون عن العمل في النقاشات، قد يتساءل البعض عما يمكن أن يقدموه من حلول للتعامل مع المشكلة وهم في الأغلب غير واعين بشكل كافٍ لأبعاد هذه المشكلة. يُطرح في هذه الحالة نقاش المفاضلة بين "الفاعلية" و"التمثيل"، وأيهما له الأولوية.
لو كانت الأولوية لاختيار حلول فاعلة تساهم في تحديد أفضل السياسات التي تساهم في خفض نسبة البطالة بأعلى معدل، في هذه الحالة يكون اللجوء إلى الخبراء والمتخصصين هو الاستراتيجية السليمة. لندع الخبراء والمتخصصين ليقرروا، وعلينا نحن أن ننصت. أما لو كانت الأولوية في السياسات العامة هي التأكد من تعبير هذه السياسات العامة وتمثيلها لمصالح وتطلعات قطاعات واسعة من المواطنين، في هذه الحالة تكون إشراك أصحاب المصلحة والمتأثرين هي الاستراتيجية السلمية. لندع أصحاب المصلحة والمتأثرين بالمشكلة ليقرروا الأنسب لهم ولظروفهم ولإحتياجاتهم. وبين هذين الطرفين توجد مساحات واسعة وخيارات متعددة تمزج بين الخيارين.
الفاعلية والتمثيل في الطب والسياسات العامة
الفاعلية هي الخيار المفضل للأطباء حسب الأشكال القديمة، في حين أن التمثيل هو الخيار المفضل لو كنا اتجهنا لمسار مشاركة أكبر بين الأطباء والمرضى. لكن الخيارات السائدة حالياً في الطب وفي السياسات العامة لا تميل إلى الفاعلية ولا التمثيل، بل تميل بشكل متزايد إلى آليات السوق، والتسويق بشكل أكثر تحديداً. لا ينفذ السياسيون في الأغلب الخيارات صاحبة الفاعلية الأكبر لاعتبارات سياسية. ولم نصل إلى شكل تشاركي واسع في صنع السياسات العامة لأنه يتم الترويج إلى أن هذا الشكل غير مقبول وغير عملي في نفس الوقت. السائد هو أن يحاول من لديه إمكانيات تسويقية أكثر وإمكانيات أعلى لحشد داعمين ومؤيدين أكثر لجعل سياستهم هي الخيار السائد، والأعلى صوتاً والأكثر جاذبية حتى لو كان غير فعال ولا يمثل الناس.
تأثير التسويق في صنع السياسات العامة والعلاقة بين الأطباء والمرضى
اعطني ميزانية جيدة، ومسوقاً ماهراً، وشريحة عملاء مستهدفة لها خصائص واضحة، والنتائج شبه مضمونة. هذا منطق التسويق القائم على آليات السوق. قد يأخذ التسويق شكلاً آخر مرتبطاً بالمؤسسات الدولية المشهورة. مؤسسة دولية قررت عدداً من السياسات العامة باعتبارها هي الأمثل للتعامل مع مشكلة عجز الموازنة مثلاً. يصبح ما تقرره هذه المؤسسة جزءاً من حملات تسويق باسم هذه المؤسسة وخبرتها والخبراء الموجودين بها. ماذا لو كانت هذه السياسات غير مناسبة لبلد ما؟ آلة التسويق الكبيرة تجعل رفض هذه السياسات أمراً صعباً. إنه أمر يشبه مقاطعة أحدث التكنولوجيات والأجهزة الحديثة. أمر صعب لا يقدر عليه الكثيرون.
هل يمكن لهذا المنطق أن يسود في العلاقة بين الأطباء والمرضى، وعند تحديد السياسات العامة بين الحكومة والمواطنين؟ السؤال بـ "هل" هنا لا معنى له في تقديري. هذا المنطق يسود في تقديري وبمعدلات متسارعة. السؤال هو: هل يمكن أن يتراجع هذا المنطق أو يحل محله منطق بديل؟ هذا هو السؤال الذي يحتاج إلى إجابة.
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
بعد أسبوعين تقريباً، عاد المريض الطبيب يسأل عن الأستاذ المشهور لأنه يريد مقابلته. كان يحمل في يده النتائج التي حصل عليها من الأشعات والفحوصات الجديدة، وكان يبدو على وجهه علامات الجدية. رفض إطلاع أحد على النتائج إلا في حضور الأستاذ المشهور. عندما قيل له إن هذا الأستاذ غير موجود حالياً وليس له مواعيد ثابتة للحضور، ويمكنه، إذا أراد، أن يتحدث مع أي طبيب آخر، رفض بشدة. قال إنه يريد مقابلة نفس الطبيب.
اتجه إلى أحد الكراسي وجلس هناك في الانتظار، على أمل أن يحالفه الحظ ويجده اليوم كما حدث في المرة السابقة. ذهبت إليه الطبيبة التي كانت تدافع عن أن تشخيص الأستاذ المشهور غير سليم. طلبت منه بلطف أن تطلع على نتائج الأشعة والفحوصات. ولكنه رفض بحزم، مُصِرّاً على أن هذا يجب أن يتم فقط في حضور الأستاذ المشهور.
أما ما حدث لاحقاً، فتركته لخيالكم!