صورة الموظف الحكومي التقليدية لا تبعث على أي تعاطف أو دعم لذلك تعمل الحكومات على تقليل أعدادهم بشكل مستمر. الموظف الحكومي شخص روتيني، بطئ، يحاول عرقلة إنجاز العمل، يؤدي أعمال غير ضرورية أو لا أهميه حقيقة لها، وبالتالي فإن غيابه أفضل من وجوده. هذه الصورة النمطية تتكرر في الآداب والفنون بأشكال مختلفة. الأديب العالمي نجيب محفوظ صور حياة موظف حكومي تقليدي في رواية "حضرة المحترم" في صورة شخص همه الوحيد الذي يملأ عليه قلبه وعقله البحث عن ترقيه لكي يصل إلى أعلى المناصب الحكومية. دخول بطل الرواية في بداية الرواية لمكتب موظف حكومي كبير فملك المكتب والمنصب والمكانة قلب الموظف ليصبح العمل والترقي داخل جهاز الدولة هو الهدف الديني والدنيوي لهذا الموظف. موضوع الرواية جعلها الأساس لمسلسل إذاعي ثم مسلسل تلفزيوني يستلهم الرواية في عمل درامي أطول. أما أحدث المشاهد الأيقونية العالمية التى تصور موظفي الحكومة فهو مشهد حيوان الكسلان الذي يمثل موظف الحكومة في فيلم الكرتون Zootopia . اختيار الحيوان له دلالة لكن المشهد نفسه مليء بالإشارات والإيماءات عن بطء وسوء فهم الموظف وضعف البديهة لديه. لا أحتاج لأن أسرد لك مزيد من الأمثلة من الأدب والسينما والمسرح، بل ومن التجارب الحياتية والقصص الشخصية التى تشترك جميعها في التقليل من أهمية موظفي الحكومة، والتى تدعو بشكل مباشر أو غير مباشر للتقليل من وجودهم وأدوارهم. في الأغلب، أعزائي القراء، فإن الجزء الأكبر منكم مؤيد لهذا الرأي. لكن صاحب هذا المقال يقف على الطرف الآخر من هذا الرأي: أنا أدافع عن زيادة أعداد موظفي الحكومة في البلدان العربية. وقبل أن تتركنا وتغادر معتقدا ً أنك ستضيع وقتك في قراءة قضية خاسرة، ادعوكم للتمهل قليلا ً وإعطائي ثلاث دقائق من وقتكم الثمين من أجل إقناعهم بفكرتي. ولنبدأ أولاً بأعداد موظفي الحكومة الحاليين في دولة مثل مصر، هل هناك زيادة أم عجز؟
أعداد الموظفين تتراجع..وكذلك الخدمات المقدمة!
النظر إلى أعداد الموظفين لوحده غير كافي لفهم حجم أعداد الموظفين الحكوميين ولا حجم الخدمات التي يقدمونها. إضافة عدد الموظفين إلى عدد السكان الإجمالي يمكن أن يخرج لنا متوسط عدد المواطنين الذين يقوم كل موظف حكومي بخدمتهم. هذه الحسابات قامت بها بالفعل الاستاذه نسرين الشرقاوي بناء على بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لتخرج بأرقام ذات دلالة. في عقد الستينات، كان الموظف الحكومي المصري يقدم الخدمات إلى حوالي 31 مواطن. أما في العام 2017، فإن الموظف الحكومي يقدم الخدمات إلى عدد 18 مواطن. في حين تستهدف مصر أن تصل بهذا العدد إلى 40 مواطن لكل موظف حكومي بحلول العام 2030. ما الذي تعنيه هذه الأرقام؟
الإنطباع الأول قد يكون أن انخفاض عدد المواطنين لكل موظف حكومي يساعد في تقديم الخدمات الحكومية بشكل أفضل. والمنطق وراء ذلك أن الموظف سيكون لديه الوقت الكافي والجهد لإنجاز أعمال المواطنين. لكن هذا ليس صحيح بالضرورة طوال الوقت. إنطباع آخر، هو أن أعداد الموظفين إلى عدد السكان قد زادت في الفترة الحالية مقارنة بفترة عبدالناصر التى يتم النظر إليها على أنها الوقت التى تدخلت فيها الدولة بشكل كبير في الاقتصاد وكان هناك حركة تعيينات حكومية واسعة. تقول الأرقام عكس ذلك، لقد زادت أعداد الموظفين الحكوميين حالياً ونسبتهم إلى عدد السكان مقارنة بالعهد الناصري. لكن الأرقام تشير أيضاً إلى تراجع واضح في هذه الأرقام وهذه النسبة خلال السنوات القليلة الماضية. ومستهدف الوصول إلى موظف حكومي إلى 40 مواطن يحمل دلالة قوية في هذا السياق. بل إن تراجع أعداد الموظفين الحكوميين خلال السنوات القليلة الماضية يشير إلى أن الحكومة تتفق في الرأي معكم أعزائي القراء من أن موظفي الدولة "هم" يجب التخلص منه أو تقليله. أظن هذه من المرات القليلة التى يحدث فيها اتفاق بينكم وبين سياسات الحكومة الحالية. لكني سأحاول تعكير صفو هذا الاتفاق بالتساؤل: هل هذه النسبة أصلاً مرتفعة أو منخفضة بالنسبة لباقي دول العالم؟ يعني لو قارنا نسبة الموظفين الحكوميين إلى أعداد السكان في مصر إلى نفس هذه النسبة في الدول الأخرى كيف ستكون النتيجة؟
لننتقل إلى الدول الأوروبية المتقدمة التى يعتبرها البعض المثال الذي يجب أن نسير وراءه والنموذج الذي يجب أن نحتذي به. باستخدام البيانات المتاحة في العام 2015، نجد أن أقل دولة أوربية في عدد الموظفين الحكوميين إلى عدد السكان في العام 2015 كانت إيطاليا حيث كان هناك 55 موظف لكل ألف من السكان. أي أن كل موظف حكومي إيطالي يخدم 18 مواطن. هل لاحظت شئ؟
أنه نفس الرقم في مصر في العام 2017، أي أن مصر قريبة الشبه بإيطاليا في نسبة الموظفين الحكوميين إلى أعداد السكان. ويمكنك العودة إلى الأرقام السابقة. المفاجأة ليست هنا. المفاجأة أن هذه هي "أقل" دولة في الدول الأوروبية. أما باقي الدول فإن موظف الحكومة يخدم عدد أقل من الناس. خذ مثلاً دولة مثل فرنسا هناك 88 موظف إلى كل ألف من السكان، أي أن الموظف الحكومي يخدم 11 من السكان. أما في النرويج فإن كل موظف حكومي يخدم حوالي 6 مواطنين. ما الذي تعنيه هذه الأرقام؟
تعني أن عدد الموظفين الحكوميين في مصر على سبيل المثال بالنسبة إلى عدد السكان ليس كبيراً كما كنا نتصور، على الأقل بالمقارنة بالدول الأوروبية. وبالتالي فأن التركيز على تقليل "أعداد" هؤلاء الموظفين غير مبرر خاصة لو كنا في حاجة إليهم. وهذه هي الحجة الثانية التي أقدمها في هذا المقال للدفاع عن وجهة نظري.
الأرقام ليست مهمة…قطاعات العمل هي الأهم
أرقام العاملين في الحكومة في حد ذاتها ليس لها أهمية كبيرة. الأهم في تقديري عند النظر إلى هذه الأرقام هو تقييمها من ناحية الفائدة المرجوة منهم. هل هناك فائدة أو مصلحة متحققة بوجود هؤلاء الموظفين أم أن وجودهم غير ذات فائدة؟
يرى مصطفى مدبولي على سبيل المثال أن الهيكل الإداري الحالي للدولة المصرية لايحتاج إلى 30% فقط من العاملين في هذا الجهاز. لا أدرى على وجه الدقة كيف استطاع تحديد هذا الرقم. لكن أظن أن أفضل طريقة لمعرفة إذا كنا في حاجة إلى زيادة أو تقليل عدد الموظفين الحكوميين هو أن نتسائل أولاً:
أين يعمل الموظفون الحكوميون؟
طبقاً لمركز معلومات وزارة التربية والتعليم يبلغ عدد المعلمين في القطاع الحكومي والقطاع الخاص في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي 958753 معلم، للتقريب لنقل أنهم مليون معلم تقريباً. لو اعتبرنا أن عدد العاملين في الدولة المصرية حوالي 5 مليون عامل، فإن من بين كل خمسة عاملين منهم واحد على الأقل يعمل كمدرس. رقم كبير وضخم ويعادل في بعض الأحيان مجموع سكان دولة صغيرة الحجم. لكن قبل التسرع في هذا الحكم، علينا أن نتذكر أن مصر تواجه عجز في أعداد المعلمين وأن هذا الرقم الحالي غير كافي لمواجه الاحتياجات المجتمعية للمعلمين. طبقاً لتقديرات وزارة التربية والتعليم فإن الوزارة تحتاج إلى ما يقرب من 300 ألف معلم لسد العجز لديها، وأن أغلب هذا العجز موجود في التعليم الأساسي (سنوات رياض الأطفال والتعليم الابتدائي). لنتوقف قليلاً عند هذا الرقم.
أغلبية المعلمين هم من الموظفين الحكوميين، أي من العاملين في المدارس الحكومية. تحتاج مصر من هؤلاء الموظفين الحكوميين إلى أكثر من ربع مليون معلم إضافي. أي أننا نريد تعيين موظفين أكثر للعمل في قطاع التعليم وليس التقليل من عدد العاملين الحاليين.
الأمر الأخر، أن أغلب هذا العجز مرتبط بالمراحل الأساسية لأي طالب، مراحل تعلم القراءة والكتابة والحساب والمهارات العلمية الأساسية. وجود عجز في هذه المدارس يعني أننا سنواجه مشكلة مجتمعية ومشكلة تنموية مستقبلاً. أما المشكلة المجتمعية فإن قطاعات كبيرة من الأجيال القادمة لن تكون لديها المهارات الأساسية للقراءة والكتابة والتفكير النقدي والمنهجي. أما على الجانب التنموي، فهذا يعني أن مستوى القادمين لسوق العمل سينخفض أكثر وأكثر مستقبلاً. يبحث رجل الأعمال أو صاحب العمل عن موظفين لديهم عدد من المهارات الأساسية اللازمة لنجاح عمله أو إدارة مصنعه لكنه لا يجدهم. يتقدم إلى الوظفية مئات بل الآلاف المتقدمين لكن دون المهارات الأساسية اللازمة لهذه الوظيفة. هل فكرنا لماذا يحدث هذا: بسبب تدني مستوى التعليم على الأغلب.
بعضكم سيجادل أن التعليم "المجاني" هو الذي أخرج لنا خريجين لا تجيد القراءة والكتابة. أقول أنا أن التعليم "الردئ" هو الذي أخرج لنا خريجين لا تجيد القراءة والكتابة. الفرق كبير بين المجاني والردئ. العبرة ليست فيما إذا كان التعليم بمقابل أم بدون مقابل، العبرة إذا ما كانت المنظومة التعليمية يتم إدارتها بشكل جيد أم لا. يمكن أن تدفع الكثير من الأموال في مدرسة خاصة لكنك لا تحصل في النهاية على مستوى التعليم الذي تطمح إليه. في حين أن وجود مدرس جيد في مدرس حكومية قد يوفر لأولادك مستوى جيد من التعليم حتى لو كان هذا التعليم مجانياً. ما أريد قوله أن تقييم التعليم مرتبط بالعملية التعليمية نفسها التي تتم والمخرجات التي تحدث منها، وليس مرتبط بما إذا كان ذلك بمقابل أم غير مقابل. يساعد توفر المال على تحسين وتطوير إدارة العملية التعليمية ومخرجاتها، لكنه لوحده غير كافي في ظل عدم وجود أدوار جيدة ولا معلمين أكفاء. يمكن أن أجادل في هذه النقطة كثيراً لكن دعونا ننتقل للحجة التالية.
أغلب المواطنين في العالم العربي غير قادرين على إدخال أولادهم إلى المدارس الخاصة. فهل نترك هؤلاء في الصحراء ليموتوا عطشاً في مقابل نجاة 20% من المجتمع بفرص تعليم جيدة؟ هذه أقرب لمحاولة قتل جماعي غير متعمد لملايين المواطنين عبر نزع أي إمكانية لديهم للاستمرار والتطور مستقبلاً من خلال حرمانهم من المهارات الأساسية للتعليم. لا أعتقد أن القراء لديهم رغبة للمشاركة في أي عمليات عنف أو قتل صامت لملايين المواطنين.
الآن لننتقل من التعليم إلى الصحة. يعاني قطاع الصحة من نقص في أعداد الأطباء البشريين والتمريض وغيرهم من مقدمي الخدمات الصحية. الأطباء البشريين العاملين في المستشفيات الحكومية والوحدات الصحية هم جزء من موظفين الحكومة، فهل تريد أيضاً التخلي عنهم والتقليل من أعدادهم؟ هل يرغب أي منكم للذهاب إلى مستشفى في حالة طارئة فلا يجد طبيب الاستقبال أو يكتشف عدم وجود أطباء عناية لأن الأطباء تسافر للخارج طلباً للعمل أو الهجرة. لا أتمنى أن يمر أي منكم بهذا الموقف، فقد كنت شاهداً على عديد من هذه المواقف أثناء عملي طبيب بشري لمدة عشر سنوات. هذا موقف لا يتمناه من يمتلك الحد الأدنى من الإنسانية.
إذا كنا في حاجة إلى زيادة أعداد العاملين في التعليم، والصحة والأوقاف، ووزارة الداخلية وغيرها من الوزارات. فكيف إذاَ نريد تقليل عدد الموظفين الحكوميين إلى الثلث تقريباً؟
الخاتمة
وصلنا الآن للمنعطف الأخير. أنا أعلم أن صورة الموظف الحكومي لم تكن مرتبطة في أذهان الكثيرين بالأطباء والمعلمين وأئمة المساجد والعاملين في قطاع الأمن والدفاع. لكن الواقع أن هؤلاء هم الجزء الأكبر من موظفي الحكومة. لذلك فزيادة أعداد موظفي الحكومة تعني زيادة أعداد هؤلاء الموظفين بالضرورة. تُفيد هذه الزيادة الأفراد العاملين في الحكومة، والمواطنين بصفة عامة، كما تفيد خطط التنمية والتحديث في الدولة.
ماذا عن الموظف الذي يعرقل الإجراءات والذي يقوم بالكثير من الإجراءات الروتينية؟ الحقيقة أن هذه الإجراءات يجب أن يتم تحديثها بحيث تتم بشكل عبر الإنترنت، ومن خلال استخدام الوسائل التكنولوجية، وتوفير الأدوات المختلفة التي تساعد على إنجازها في أسرع وقت. أو بلغة الحكومة "التحول الرقمي" والميكنة. تريد التقديم من أجل فتح شركة جديدة؟ المفروض أن تتم أغلب هذه الإجراءات أون لاين. تقوم برفع الأوراق المطلوبة عبر بوابة ما. تنتظر يوم أو يومين حتى يأتيك الرد. لو هناك أوراق ناقصة تقوم برفعها واستكمالها. يوفر وجود نظام قوي مع تكنولوجيا حديثة مع تسهيل الخطوات والإجراءات الكثير من الوقت والجهد. لكن القيام بهذا ليس مسؤولية الموظف الحكومي، بل مسؤولية الحكومات والجهات التنفيذية. لذلك فقبل أن نلوم الموظف على الإجراءات العقيمة والروتينية التي يقوم بها، لماذا لا نلوم من قام بتصميم هذا النظام وجعله يستمر عبر العقود بدون تغيير؟
لدي الكثير الذي يمكن أن أُضيفه في هذا الموضوع. لكن حتى ألتزم بالأربع دقائق التى ذكرتها في بداية المقال، اختم بالتساؤل: هل استطعت أقناعكم بأننا في حاجة إلى زيادة عدد الموظفين العاملين في الحكومة؟
نعم اقتنعنا ونرى هذا ضرورة من ضرورات الحياة والاهتمام بالتعليم والصحة وباقى متاحة الخدمات وزيادة عدد الموظفين مهم جدآ لكن إحنا فقرا قوى