لنفترض أن سلسلة الانقلابات العسكرية في الدول الأفريقية أعادت لديكم الشغف الذي تلاشى مع الوقت لدراسة موضوع الجيوش وعلاقتها بالسياسة والاقتصاد. أنا أعلم أن الشغف لم يتلاشى لكنه الخوف هو الذي انتشر. هذه مواضيع حساسة في عالمنا العربي، الكتابة فيها تشبه اللعب بالنار. لنتحايل على الرقيب إذاً، ولنلعب لعبة يجيدها الباحثون كثيراً لتجنب الوقوع في المخاطر. تناول الموضوع بشكل مقارن، أو بشكل مفاهيمي دون أن نتورط في دراسة حالات عربية بعينها كالحالة المصرية مثلاً. هذا اقتراح جيد، لكني أضيف عليه اقتراح آخر. لماذا لا نفكر في موضوعين مرتبطين ببعضهما الأخر: متى يدخل الجيش إلى السياسة؟ ومتى يخرج منها؟ طرح هذه الأسئلة بتلك الصيغة مبنية على فكرة رئيسية أن وجود الجيش في السياسة أو الاقتصاد ليس من الحقائق الكونية التي لا تقبل التغيير. وجود الجيش في السياسة لا يشبه وجود كوكب الأرض ضمن المجموعة الشمسية مثلاً. نحن نعرف الآن، أن هناك دول عديدة كانت جيوشها جزء من السلطة والسياسة في يوم من الأيام لكنها لم تعد كذلك. أي أن هذا الموضوع هو ظاهرة لها ظروف قد تدفع لوجودها وظروف أخرى قد تدفع لاختفائها. فما هي هذه الظروف؟
ولأن وقت حضراتكم ثمين، وحجم المقال قصير فدعنا نقتصر فقط على دخول وخروج الجيش من الاقتصاد. وهي قضية أتوقع أنها تهم الكثيرين منكم الآن في ظل الأزمات الاقتصادية الحالية. وخطة هذا المقال كالتالي: ثلاث افتراضات خاطئة يجب استبعادها قبل مناقشة هذا الموضوع. متى يدخل الجيش إلى الاقتصاد؟ متى نقول أنه قد خرج منه؟
ثلاث افتراضات خاطئة
الافتراض الخاطئ الأول أن موضوع البيزنس والجيوش هي مواضيع تخص دول العالم الثالث وأنها ظاهرة غير موجودة في دول العالم الغربي الديمقراطي الرأسمالي.الواقع أن هذه الدول الغربية تعاني أيضاً من مشاكل في هذا الموضوع لكنها ذات طبيعة مختلفة. هناك ميل متزايد منذ منتصف الثمانينات لخصخصة الأنشطة الدفاعية. الأمور تطورت إلى ما يشبه خصخصة الخدمة العسكرية نفسها التي كان يتم النظر إليها في يوم من الأيام باعتبارها خدمة وطنية إجبارية على جميع المواطنين. تطورت الأمور أكثر لتظهر لنا بلاك وتر وفاجنر وغيرها من المؤسسات الخاصة التي حولت الأنشطة الدفاعية والعسكرية إلى أنشطة بيزنس وجمع أموال. كانت هذه التطورات تتم بينما هناك تحذير من عدد من السياسيين الأمريكيين من العلاقة بين المجمع الصناعي- العسكري في الولايات المتحدة الأمريكية. التداخل بين العسكرين والبيزنس إذاً ظاهرة موجودة في دول مختلفة لكن بأشكال متنوعة و فروقات كبيرة في أغلب الأحيان.
الافتراض الخاطئ الثاني أن الجيوش تدخل إلى عالم البيزنس والاقتصاد من أجل تحقيق أرباح اقتصادية ومنافع مالية بالأساس. هذا التصور غير دقيق. لدينا جيوش في بلدان مختلفة من العالم دخلت هذا المجال لاعتبارات أيديولوجية أو بقرارات سياسية، أو حتى لمصالح مرتبطة ببناء شعبية وشرعية لها داخل هذه المجتمعات. الصين وفنزويلا مثالان على هذا الموضوع. تدخل الجيش في الصين في الاقتصاد بناء على اعتبارات تنموية اقتصادية في هذه المرحلة كانت موجودة لدى الحزب الشيوعي الصيني الحاكم. وخرج في نهاية التسعينات لاعتبارات اقتصادية وسياسية مختلفة بناء على قرار من نفس الحزب. على الجانب الآخر، فإن عدد من جيوش دول أمريكا الجنوبية كجيش فنزويلا مثلاً، يفضل الدخول في الصناعات التنموية والمحلية بدلاً من التركيز على الصناعات الدفاعية أو حتى التركيز على الصناعات الثقيلة ليبدو في صورة الجيش القريب من الشعب الذي يحاول تخفيف المعاناة عنه. جيش متواجد في القرى والأرياف يحاول تقديم الخبر واللبن وتمهيد الطرقات للمواطنين يكتسب شعبية لديهم أكثر من جيش موجود على الحدود والجبال يقدم خدمات لا يراها أحد. ليكسب الجيش مزيد من الشعبية والشرعية أما أمور الدفاع وتأمين الحدود فسوف نحاول تدبيرها لاحقاً. لذلك، انخراط الجيش في الاقتصاد لا يكون لاعتبارات مالية فقط، بل يشمل قبل ذلك في أحيان كثيرة اعتبارات شعبية وشرعية.
الافتراض الخاطئ الثالث أن عدم حدوث انقلابات عسكرية في دولة ما يعني سيطرة مدنية على الحكم. وهذا أيضاً افتراض خاطئ. خروج الجيش من السلطة لا يعني خروجه من السياسة. قد يبقى الجيش مؤثراً في الحياة السياسية دون أن يحكم بشكل مباشر كما كان يحدث في تركيا قبل 2001. كما أن تدخل الجيش في السياسة قد يأخذ أشكال مختلفة.
هذه ثلاث افتراضات خاطئة منتشرة بخصوص علاقة الجيش بالاقتصاد تدفعنا إلى الدخول مباشرة إلى سؤال:
متى تدخل الجيوش في الاقتصاد؟
اسمحوا لي الآن أن أعرفكم بالباحثة كريستينا ماني والتي تمنيت كثيراً أن يقوم أحد ما بالاستفادة مما كتبته من أجل فهم ما يحدث في العالم العربي. ماني لديها أكثر من ورقة منشورة بخصوص علاقة الجيوش بالبيزنس، أغلبها يركز على دول أمريكا اللاتينية لكنها ناقشت أيضاً دول أخرى اسيوية. ماني لديها ورقة منشورة في العام 2011 بعنوان طُرق دراسة الجيوش باعتبارها فواعل اقتصادية. تقدم في الورقة إطار يمكن من خلاله فهم متى تدخل الجيوش إلى المجال الاقتصادي. اختصاراً، تحتاج الجيوش إلى تجمع ثلاث شروط موضوعية من أجل دخولها إلى الاقتصاد واستمرار بقائها فيه:
الأول: فرصة تاريخية….فتحة تظهر للجيش تسمح له بالدخول إلى عالم الاقتصاد والبيزنس. قبل هذه الفرصة لايكون للجيش اهتمام كبير بهذا المجال، لكن مع وجود هذه الفرصة يبدأ اهتمام المؤسسة العسكرية يتغير. قد يكون هذا بسبب ظروف اقتصادية دولية، أو بسبب ظروف اقتصادية محلية…المهم في النهاية أن توجد الفرصة.
الثاني طبيعة الأنشطة الاقتصادية التي تركز عليها المؤسسة العسكرية: هل تفضل التركيز على الأنشطة القريبة من "السلاح" أم الأنشطة القريبة من "الزبدة"؟ هل تفضل الجيوش أن تلعب دور "المصنعين العسكريين" أن تفضل أن تلعب دور "بناه الأمة"؟ بعض الجيوش تفضل الأنشطة الاقتصادية القريبة من السلاح مثل الأنشطة المرتبطة بالحديد والصلب أو الموانئ، أو الصناعات الثقيلة. هذه أنشطة صناعية قريبة الصلة من الأمور العسكرية والدفاعية. جيوش أخرى تفضل الإنغماس في أنشطة التنمية المحلية، فتقوم ببناء المصانع وإدارة المزارع ورصف الطرق. تهتم بالأكل والمواصلات والإسكان باعتبار الجيش المنفذ الأساسي لمشاريع بناء الدولة / الأمة.
أما الشرط الثالث والضروري لاقتناص الفرصة لاستمرار هذه الأنشطة الاقتصادية فهو بناء تحالفات مع شركاء سياسيين. يمكن أن يكون هؤلاء الشركاء المؤسسات البيروقراطية، أو رجال الأعمال المحليين، أو بناء علاقات مع مؤسسات اقتصادية دولية. لا يهم. في النهاية، تحتاج المؤسسة العسكرية إلى بناء شبكة من المصالح والعلاقات التى تضمن استمرار أنشطتها الاقتصادية تعمل باستمرار.
ماني قدمت هذا الإطار بالإحالة إلى دول أمريكا الجنوبية، لكني استخدمت هذا الإطار لفهم ماحدث في العالم العربي. وماقمت به بالأساس هو عمل مراجعة لكتاب رجال الأعمال في الجيوش Businessmen in Arms الذي كان يركز على دول الشرق الأوسط، لكن من خلال استخدام الإطار النظري الذي قدمته ماني لفهم دول أمريكا الجنوبية. هل نجحت في المحاولة؟ هذا رأي أنتظره منكم بعد الإطلاع على المراجعة من خلال هذا الرابط.
على كل حال. مع توفر الفرصة، ثم الأنشطة الاقتصادية، واستمرار العلاقات …تدخل الجيوش إلى المجال الاقتصادي وتستمر فيه. الآن، نحتاج أن نسأل:
متى تخرج الجيوش من الاقتصاد؟
الإجابة السهلة على هذا السؤال أن الجيوش تخرج من الاقتصاد عندما تتوقف عن عمل الانقلابات العسكرية. هذه إجابة سهلة لكنها خاطئة. أنا أثق في أنكم لن تقبلوا بها. لدي إجابة بديلة مختصرة وإجابة أكثر تفصيلاً لهذا السؤال. هي إجابة مبنية على إسهامات كتيبة الباحثين الألمان المشتغلين بالعلاقات المدنية العسكرية: أوريل كرواسون، و ديفيد كوهن، وبول تشامبرز، وسيغفريد أو. وولف. وهي منشورة في ورقة بحثية محكمة لهم.
لنبدأ بالإجابة المختصرة: السيطرة المدنية هي الشرط الأساسي، وهي تعني أن يكون القرار النهائي في المواضيع التى تخص الاقتصاد أو السياسية أو غيرها بيد المدنيين وليست يد العسكريين. في تلك الحالة، لا يهم استمرار الجيش في البيزنس أو خرجه طالما أن الكلمة العليا عند اتخاذ القرار هي للمدنيين. قد يكون هناك مصلحة وطنية مؤقتة في تدخل الجيش ..فليحدث ذلك. اختفت هذه المصلحة، فليخرج الجيش من البيزنس وليعد إلى أنشطته الرئيسية. هذه هي الإجابة المختصرة. لكنها إجابة غير مكتملة. لماذا؟
لأن سيطرة المدنيين على القرار النهائي عند هؤلاء الباحثين الألمان يعني أن يسيطر المدنيون على القرارات في خمس مجالات رئيسية:
دخول وخروج النخب السياسية لعالم السياسة.
السياسات العامة للدولة.
الأمن الداخلي.
الدفاع الخارجي.
تنظيم المؤسسة العسكرية.
عندما يتحكم المدنيون في القرارات النهائية في هذه المجالات الخمس، في تلك الحالة يمكن لنا أن نقول أن هناك سيطرة مدنية على الجيش. وقتها يمكن أن نتوقع أن الجيش سيخرج البيزنس والاقتصاد إلا في حالات نادرة واستثنائية. على كل حال المواضيع لايزال به الكثير من التفاصيل، ويمكنكم الإطلاع عليها من هنا.
الخاتمة: هل تبخرت الآمال؟
أنا مدرك تماماً لحجم الإحباط الكبير الذي تولد في نفوسكم الآن مع قراءة الأسطر الأخيرة. هذه أسطر تقول أن السيطرة المدنية تحتاج إلى تحقيق إنجازات في مجالات متعددة، كما أنها قد تستغرق عقود حتى نصل إليها كاملة. أما الوصول إلى أول مرحلتين منها فقط الخاصة بالنخب السياسية والسياسات العامة فقد يستغرق سنوات عديدة. يعني هذا أن خروج الجيش من الاقتصاد لن يحدث قريباً على الأغلب، وأنه حتى لو بدأت أولى الخطوات فإنها قد تحتاج إلى سنوات حتى تظهر النتائج.
حسناً ..دعوني أعيد صياغة الفكرة بشكل واضح. هناك خبر سئ وخبر جيد:
الخبر السيئ: هذا موضوع لا يحدث في سنة أو اثنتين أو ثلاثة. بل يحتاج إلى سنوات. في تقديري، هذا ليس خبر سئ 100%. طول الطريق لا يعني الاستحالة. كون أننا نحتاج إلى أن نقطع مسافات طويلة أثناء السفر لا يعني أننا غير قادرين على السفر. هو يعني شئ واحد: أن من يريد السفر عليه الاستعداد لرحلة طويلة. ..هذا هو المعنى الرئيسي: الرحلة الطويلة.
أما الخبر الجيد: بين أيدينا مايمكن أن يساعدنا على إدارة هذه الرحلة الطويلة والسير فيها. مع هذا ينبغي التنبيه إلى أن وجود ما يساعدنا على إدارة الرحلة لا يُغني عند بدء الرحلة نفسها….فالخطوة الأولى: أن نبدأ، أما أدوات الاستعانة والدعم فهي متاحة لمن يريدها.