فيلم أوبنهايمر للمخرج كريستوفر نولان هو الترند في أغلب دول العالم. رشحت خوارزميات اليوتيوب فيديو للدحيح أحمد الغندور يحمل نفس إسم الفيلم. بعد انتهاء مشاهدة الفيديو، رشحت نفس الخوارزميات حلقة من برنامج انهيار الحضارة لمحمد السعدني بعنوان "سلطة السرعة". قبلت اقتراح الخوارزميات بصدر رحب. يبدو أن اليوتيوب يتعامل مع البرنامجين باعتبارهما من نفس الفئة. لكن هذا أمر حاولت حلقة انهيار الحضارة التأكيد على نفيه. مع انتهاء الحلقة برز في عقلي تساءل: هل كانت خوارزميات اليوتيوب مصيبة في اعتبار أن مشاهد حلقة الدحيح هو مشاهد "محتمل" لحلقات انهيار الحضارة؟
عوالم مختلفة
الإجابة الأولى تميل إلى اعتبار البرنامجين مختلفين من حيث الشكل. عالم برنامج الدحيح يتميز بالفردانية ويتركز حول الفرد/ الدحيح. هو البطل الأوحد والمقدم الأوحد. يعيش في غرفة مغلقة بها احتياجاته الأساسية. لا يعطيني هذا العالم أي إشارات كبيرة أو متكررة على أن لدى الدحيح اهتمامات أخرى بخلاف "الدح" نفسه، أو بعبارة أخرى القراءة والمعرفة والمذاكرة ومايرتبط بها من أنشطة. يظهر الدحيح كشخص بلا أصدقاء أو أحباب، لا علاقة له بالمجتمع المحيط به ولا المجتمع نفسه يسأل عنه. غائب عن محيطه إلا بقدر ما يقدمه من معلومات ومعرفة لهذا المجتمع. حتى في الاسكتشات التي يقدمها في بداية الحلقة، الدحيح بطلها الأوحد..لكن بنسخ مختلفة من نفس الشخص.
عالم "انهيار الحضارة" مختلف عن عالم "الدحيح". يعيش محمد السعدني بطل انهيار الحضارة في شقة في عمارة قديمة يبدو أنها في وسط البلد. محاط بجيران دائمي الاتصال به، والتواصل معه. تبدو قضاياهم ومشاكلهم هي المدخل لمواضيع حلقاته، يقضي معهم أوقات اجتماعية مليئة بالفرح في بعض الأحيان، الكثير من الهلس والألش في أحيان كثيرة. يظهر مقدم البرنامج كشخص في عالم متكامل به شخوص متنوعة، السعدني فرد فيه، قريب الشبه من باقي الأشخاص لكنه مع هذا مختلف عنهم.
فيديوهات كأس العالم التى قدمها أحمد الغندور/الدحيح خرجت من عالم الدحيح إلى عالم مختلف وبشكل مبدع. عالم جديد بشخصيات متعددة تتمحور حول الرياضة. رغم أن الغندور هو الذي قدم هذه الشخصيات المختلفة، لكن التنوع في الشخصيات خلق "عالم" تدور فيه الأحداث ويكون المعرفة جزء منه وليست هي الجزء الوحيد. بل أن هذه الشخصيات المختلفة أضافت طبقات مختلفة لهذه المعرفة التى يتم تقديمها كون كل شخص منها يعتبر نفسه "خبير" بدرجة أو بأخرى في الشأن الرياضي. الحلقات التى بدت لي أنها أقرب إلى التجربة نجحت في تقديري ليس بمعيار عدد المشاهدات لكن بمعيار التأثير في المشاهدين وخلق تصورات جديدة عن مشاهد وعوالم مألوفة نعيشها. لكن الغندور لم يكرر هذه المحاولة مرة أخرى وعاد للشكل القديم.
فيديوهات ليلة الامتحان
حلقة الدحيح قد تنقذك ليلة الامتحان أم حلقات السعدني لو اعتمدت عليها ليلة الامتحان فسيكون الرسوب هو النتيجة المتوقعة. وهذا هو الفرق الثاني بين البرنامجين. الأول يقدم بالأساس المعلومات الأساسية حول الموضوع الذي تشاهده. تريد أن تعرف قصة الحرب العالمية الثانية؟ لديك موضوع في الاقتصاد تريد فهمه بشكل جيد؟ مصطلح أو مفهوم ما يتكرر كثيراً ولا تفهمه؟ موضوع مهتم به وتريد أن تعرف معلومات أكثر عنه. حلقات الدحيح تفيدك كثيراً في هذه الحالات. أما انهيار الحضارة فلا تسعفك بالكثير من المعلومات عند تناول نفس المواضيع. أصلاً لا يبدو تقديم المعلومات من الأشياء الأساسية التي تحرص عليها هذه الحلقات. العكس هو الصحيح. هي تريد انتقادات المعلومات التى تنتشر باعتبارها مسلمات، لكي تقدم تناول مختلف أو فهم مختلف لهذا العالم. بالنسبة للطلاب حلقات الدحيح هي مصدر للمراجعة والاستذكار ليلة الامتحان، تريد أن تشاهد فيديوهات على اليوتيوب أيام الامتحانات دون أن تشعر بوخز تأنيب الضمير؟ فيديوهات الدحيح حل مثالي لهذا الموضوع. فيديوهات انهيار الحضارة ليست هي الاختيار الأمثل في تقديري، بل ربما تكون مغامرة محفوفة بالمخاطر. ربما يدفعك أحد هذه الفيديوهات للتفكير في جدوى الدراسة أو الحصول على شهاده من أساس وهو موضوع ليست أيام الامتحانات هي الوقت المناسب للتفكير به.
هل أبدو أنني اتحيز قليلاً لعالم انهيار الحضارة؟ لو كانت إجابتك "نعم" فالفقرة التالية ربما تدفع كل من قال "نعم" لتغير إجابته.
حملات الهجوم
يتوجس الجمهور المحافظ من حلقات السعدني لأنها تحتوى على كلمات وألفاظ غير ملائمة، لذلك فإن مشاهدة حلقته الجديدة في جو عائلي محافظ قد يكون أمر محفوف بالمخاطر. لا أحد يمكنه توقع ما الذي يمكن أن يقوله أو ما هي "الألفاظ" التى يستخدمها. في وسط الكلام الجاد في موضوع كبير، تأتي ألفاظ وعبارات من خارج السياق تحمل دلالات أوإيحاءات غير مناسبة لجمهور لا يفضل الاستماع إلى هذه العبارات. لا توجد أي علامات أو تنبيهات داخل الفيديو تضمن لك قبل مشاهدة حلقة ما إذا كانت تحتوى على ألفاظ أو عبارات غير ملائمة مثلاً. هذه أمور يمكن أن تجدها في منصات نتفلكس، على الأغلب لكي تدفعك لمشاهدة الفيديو ( أود أن أضع صورة لضحكة قصيرة شريرة داخل النص، لكن أترك هذا لخيال القراء). بالإضافة إلى ذلك/ فالعالم الذي تجري فيه هذه حوارات انهيار الحضارة، هو عالم ملئ بالشخصيات الغريبة والمريبة في كلامها وتصرفاتها، لذلك فأشخاص هذا العالم على الأغلب لن يتحدثوا اللغة التي تتوقعها في فيديو يقدم محتوى علمي.
هذه المشكلة غير موجودة في حلقات الدحيح. يمكن لعائلة محافظة أن تجلس بأكملها تشاهد حلقاته وهي تعلم أنها خالية من الألفاظ والعبارات الخادشة للحياء. لكن حلقات الدحيح تثير نقاشات أخرى بين جمهور المتدينين. نقاشات تمم داخل هذا الجمهور غير مرتبطة بالألفاظ والكلمات، لكن بالمحتوى "الإلحادي" والمعادي للدين الذي يحاول تمريره في حلقاته. لذلك فقد تكررت حملات منظمة ومنتظمة من أجل دعوة الناس لعدم مشاهدة حلقات الدحيح. هذا الشكل المنظم ضد المحتوى لم يحدث مع السعدني، لكنه مرشح للحدوث قريباً. والأمر في تقديري هو مسألة وقت لا أكثر. وقتها سيتحول التحفظ على الألفاظ التى يستخدمها إلى حملة عامة ضد الألفاظ والمحتوى معاً. وقتها إبتسامة صغيرة ماكرة ستملأ وجه السعدني الذي تبدو عليه علامات البراءة.
أفضل خدمة يمكن أن تقدم لبرنامج يقدم محتوى علمي أو ثقافي أن تحدث حوله جدالات ساخنة أو عميقة. إثارة النقاش والحوار حول محتوى الحلقات ومضمونها هو الهدف الأسمى لأي فيديوهات تعمل على تقديم وتبسيط العلوم للجمهور العادي. نقاش الناس حول هذا المحتوى سلباً وإيجاباً يعني أن البرنامج نجح في دفعك في "التفكير" فيما يقدمه لك. وهذا هو أقوى نجاح له.
لذلك، فأنا سأقدم لكم أعزائي القراء نصيحة ذهبية لمحاربة ما ترونه فاسد أو منحل أو خاطئ على السوشيال ميديا. هي نصيحة ذهبية وفعالة ولكني أعلم أنكم لن تلتزموا بها. النصيحة ببساطة لا تشارك ولاتشاهد ولا تتحدث عن البوست/الفيديو الذي تعتقد أن محتواه خاطئ. انتهت النصيحة.
هل كانت الخوارزميات مصيبة؟
ما الذي أوصلنا لهذه النقطة؟ كنت أتساءل هل كانت خوارزميات اليوتيوب مصيبة في ترشيحاتها أم لا فما الذي أدخلنا في هذه المواضيع. عموماً، يظل السؤال مطروحاً. بالنسبة لي شخصياً، لدى تفضيلات مختلفة لشكل برنامج يحاول إيصال العلوم والمعارف لجمهور أوسع. التفضيل الأول مرتبط بتقديم مواضيع بشكل منهجي منظم وليس المواضيع التي تلهث خلف الترندات أو التى تحاول أن تصنعها. العالم العربي ينقصه الكثير في التعليم، والميديا يمكن أن تكون وسيلة للتعليم المنهجي لكن بشكل ممتع. هذا كلام لا يعجب العاملين في الإعلام ولا السوشيال ميديا. بالنسبة لهم هذه اقتراحات شخص لايعرف شيئاً عن كيف تعمل الآلة الإعلامية ولا كيف تتم إدارة السوشيال ميديا. لكن لو كان للسوشيل ميديا ميزة واحدة فقط في مقابل عيوبها المتعددة، فإن هذه الميزة أنها خلقت إمكانية أن يأتي شخص ما من اللامكان حرفياً ليملئ أوقات ملايين المشاهدين. هذه مغامرة تحتاج إلى قلوب شجاعة لا تنظر إلى أعداد المشاهدات في الشهور الأولى لكن تنظر إلى التأثير الكبير الذي سيحدث في السنوات التالية.
التفضيل الثاني للبرنامج الذي أفضله هو أن لا ينتهي بخاتمه تغلق باب النقاش في الموضوع، أو خاتمه تبدو وكأنها تقول هذا كل مالدينا وابحث عن شيء آخر تفعله عزيزي المشاهد بعد انتهاء هذا الفيديو. في تقديري الشخصي المتواضع، فإن أفضل خاتمة لأي محتوى علمي أو أكاديمي أن لا يكون له خاتمة. أي أنه يفتح باب النقاش والتفكير ولا يغلقه وهو يرحل. خاتمة جاءت لتكون مفتاح أبواب مغلقة ..تفتحها ثم ينتهي الفيديو بعد ذلك. بغلة العلماء والباحثين أن تطرح الحلقة أسئلة بينما هي تحاول تقديم إجابات للسؤال الذي تتناوله. ولكي أعطي مثال عملي على ذلك، فأنا أمرر لكم الكرة الآن وأسأل: هل كانت خوارزميات اليوتيوب مصيبة في اعتبار أن مشاهد حلقة الدحيح هو مشاهد "محتمل" لحلقات انهيار الحضارة؟
يمكنكم قراءة المقالات السابقة من خلال هذا الرابط