لا تقتصر تبعات قانون الإيجار الجديد الصادر في مصر على العلاقة بين المالك والمستأجر، بل تمتد لتشمل فئات مجتمعية متعددة، وتُخلّف آثارًا بعضها متوقَّع، وبعضها الآخر خارج دائرة التوقّع. يعالج القانون ملفًا طالما تجنّبت الحكومات المتعاقبة الاقتراب منه لعقود، بسبب حجمه وتعقيداته. ويمكن النظر إلى هذا القانون من ثلاث زوايا رئيسية:
تركّز الزاوية الأولى على العدالة الاجتماعية، وتسأل: هل يساهم القانون الجديد في حماية الفئات الأضعف داخل المجتمع؟
تعالج الزاوية الثانية مسألة حقوق الملكية، وتسأل ما إذا كانت قد أُعيدت وضُمِنت بطريقة عادلة وفعّالة.
أما الزاوية الثالثة، فتتعلّق بالاستقرار الاجتماعي، وخصوصًا استقرار الأسر المصرية: كيف ستتعامل الدولة مع العائلات التي عاشت لسنوات، وربما عقودًا، في مساكن مستأجرة؟ وماذا عن الأسر التي تمتلك عقارات لكنها تسكن بالإيجار؟
لذلك، لا يجب أن ينصبّ التركيز على سؤال: من الرابح؟ المالك أم المستأجر؟ بل على مدى قدرة هذا القانون على المساهمة في حل واحدة من أضخم المشكلات العامة في المجتمع المصري. أسئلة التقييم والانحيازات مشروعة، ويمكن مناقشتها في مقالات أخرى، لكن هذه المقالة تحاول أن تُجيب عن أسئلة مختلفة: لماذا صدر القانون في هذا التوقيت؟ كيف صيغ؟ وماذا يمكن أن يترتّب عليه مستقبلاً؟
المحكمة الدستورية العليا هي البداية
لم تبدأ دائرة التغير من عند الحكومة هذه المرة، بل بدأت المحكمة الدستورية العليا. ففي عام 2002، أصدرت المحكمة حكمًا بعدم دستورية النص الذي كان يمنح الامتداد القانوني لعقد الإيجار ليشمل أقارب المستأجر حتى الدرجة الثالثة دون قيد. رأت المحكمة أن هذا النص "يجور بشكل كبير على المالك"، وحدّدت الامتداد بجيل واحد فقط، يقتصر على الأبناء، والزوجة، والوالدين. بذلك، ألغت المحكمة عمليًا فكرة "الأبدية" للعلاقة بين المالك والمستأجر.
بلغت الأمور ذروتها في نوفمبر الماضي، حين قضت المحكمة بعدم دستورية بعض فقرات قانون الإيجار القديم، وخصوصًا ما يتعلّق بتثبيت الأجرة السنوية للوحدات السكنية. حدّدت المحكمة اليوم التالي لانتهاء دور الانعقاد التشريعي العادي لمجلس النواب موعدًا لتفعيل الحكم. دفع هذا الحكومة لتقديم قانون جديد؛ إذ إن عدم إصدار قانون خلال الدورة الحالية كان سيُجبر المالك والمستأجر على توقيع عقود جديدة تمامًا.
برّرت المحكمة قرارها بأن الوضع الحالي يفتقر إلى التوازن المطلوب، مؤكّدة أن تدخل المشرّع ضروري لضمان ألا يُفرَض على المستأجر قيمة إيجارية استغلالًا لحاجته إلى مسكن، وألا يُهدَر عائد الاستثمار في العقارات نتيجة لتثبيت الأجرة.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تُفضي فيها أحكام المحكمة الدستورية إلى تحوّلات كبيرة في السياسات العامة. يكفي التذكير بحكم المحكمة بعدم دستورية تعيين رؤساء اللجان الفرعية للانتخابات من خارج الهيئة القضائية، وهو الحكم الذي مهّد للإشراف القضائي الكامل على الانتخابات في مصر. في كلا الحالتين، كانت المبادرة قانونية وليست اجتماعية. لا أحد يستطيع التحكّم في السياسات العامة تمامًا، حتى لو ظنّ أنه قادر. دائمًا ما تظهر أحداث غير متوقعة وفاعلون يغيّرون الأوضاع القائمة المسارات المستمرة.
لم يكن حجم المشكلة، ولا فاعلية الملاك، ولا طبيعة العلاقة بين الطرفين هو ما فجّر التغيير. تغير السياسة بدأ من باعتبار دستوري قانوني، لا من ضغوط ومطالب اجتماعية. ومن اللافت أن المحكمة الدرستورية هي من وضعت الإطار الزمني اللازم للتغيير. يتداول بعضهم همسًا أن تنسيقًا خفيًا تم بين المحكمة والحكومة، باعتبار أن الحكومة تُفضّل الابتعاد عن الملفات الاجتماعية الحساسة، وتُفضّل أن يبدأ التغير في هذا الموضوع من "أطراف آمنة". لا يوجد دليل يدعم هذه الفرضية، ولا يسمح الإطار القانوني بذلك، وينبغي التذكير هنا أن شكل تفجّر الأزمة حدّد مسار النقاش حولها.
لو بادرت الحكومة وقدّمت مشروع القانون دون ضغوط دستورية، لربما كان لديها فرصة أفضل لفتح مساحة نقاش أوسع، وتحقيق دعم شعبي أكبر. لكنها انشغلت بإصدار القانون، لا بحشد التأييد له. وهذا فرق كبير.
تبرز هنا مسألة أساسية: الفرق بين الالتزام القانوني وإدارة الحوار السياسي. الأول قد يكون حتميًا، أما الثاني فهو خيار سياسي يعكس مدى احترام الحكومة للمجتمع ومطالبه واحتياجاته. عندما يغيب النقاش، تظهر مشكلات مثل ضعف الثقة، ومقاومة التغيير. لا يُشكّك أحد في حق المالك في التحكم في ملكيته، ولا في الحاجة إلى إصلاح قانون عتيق، لكن يحدد طريقة الطرح والتوقيت وأسلوب التفاعل المجتمعي ما إذا كان القانون الجديد يمثل خطوة إصلاحية أم استجابة مؤقتة لأزمة متراكمة.
سياسات بلا بيانات؟
استعرض عبد الحميد شرف الدين، مستشار رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، خلال اجتماع لجنة الإسكان بمجلس النواب في مايو الماضي، بيانات رئيسية حول أعداد الوحدات السكنية المؤجرة بنظام الإيجار القديم. تضمّنت تصريحاته ثلاث نقاط أساسية:
يشكّل الإيجار القديم ما نسبته 7% من إجمالي عدد الوحدات السكنية في مصر، وفقًا لتعداد عام 2017، مع الإشارة إلى أن هذه النسبة في تراجع مستمر خلال العقود الماضية.
يبلغ عدد الأسر التي تقطن بموجب عقود الإيجار القديم نحو 1.642 مليون أسرة، بما يتجاوز أربعة ملايين فرد.
يصل إجمالي الوحدات المؤجّرة بهذا النظام إلى 3.19 مليون وحدة، منها 1.869 مليون وحدة سكنية، وأكثر من 500 ألف وحدة لأغراض العمل، بالإضافة إلى 9,307 وحدات تُستخدم للسكن والعمل معًا، مثل مكاتب المحاماة.
هذه الأرقام لا تكفي وحدها. المطلوب هو تحويلها إلى معلومات، ثم إلى أدلة يمكن استخدامها لدعم سياسات معينة أو الطعن في جدواها. يستخدم السياسيون الأرقام بشكل انتقائي لتأطير النقاشات العامة في اتجاهات تخدم مصالحهم، لكنّ وجود بيانات رسمية يوفّر قاعدة معرفية صلبة للنقاش الجاد.
تكمن أهمية الأرقام في قدرتها على توليد معرفة، حين تُوضَع ضمن سياق. على سبيل المثال، عندما نعرف أن أكثر من 1.5 مليون أسرة تعيش في مساكن خاضعة لنظام الإيجار القديم، يبرز سؤال: هل يزداد هذا العدد أم يتناقص؟ وما خصائص هذه الأسر؟ ما نسبة المؤجّرين الأصليين مقارنة بالجيل الأول من المستأجرين؟ هل تتركّز هذه الوحدات في مناطق بعينها داخل القاهرة أو الإسكندرية؟ وما الذي يميز هذه المناطق اجتماعيًا واقتصاديًا؟
كل هذه الأسئلة يمكن الإجابة عنها إذا ما توفّرت الإرادة لاستثمار البيانات المتاحة وتحليلها. ومع ذلك، ورغم ملاحظة غياب البيانات كعنصر رئيسي في نقاش القانون داخل البرلمان، جرى تمرير التشريع في اليوم التالي، دون أي محاولة لسدّ هذه الفجوة. هذا التجاهل أضعف النقاش، وأدى إلى إصدار قانون بلا أسس معرفية واضحة.
تساعد البيانات في تجنّب مشكلات متوقعة، كما تُسهم في اقتراح حلول أكثر دقّة وفاعلية. أما غيابها، فيؤدي إلى سياسات تفتقر إلى الثقة، وذات فاعلية محدودة. لم نصل بعد إلى مرحلة تحويل المعلومات إلى حجج وبراهين. هذه خطوة متقدمة، تسبقها مراحل من الفهم والتحليل. لدينا أرقام، نعم، هل هي كافية؟ لا، لكن يمكن البناء عليها. والسؤال: هل حاول أحد فعلاً تحويل هذه البيانات إلى معرفة تُستخدم لاقتراح سياسات فاعلة وتراعي الأبعاد الاجتماعية في القاتون؟
ماذا بعد؟
إذا قارنا طريقة إخراج قانون الإيجار الجديد بكيفية إدارة أزمة قانون المسؤولية الطبية، فسنجد مشهدين مختلفين تمامًا. في الحالة الأولى، تحوّلت أزمة حادة إلى نقاشات مستمرة، تلاه خروج نقيب الأطباء بنفسه للدفاع عن تعديلات القانون. لم نشهد شيئًا خروجاً مماثلًا من جانب المستأجرين. وهذا يعيد طرح السؤال الذي سبق أن ناقشته: هل باتت "لجان البرلمان" تلعب دورًا متزايد الأهمية في تشكيل السياسات العامة، في ظل غياب النقاشات المجتمعية وضعف دور المتخصصين؟
تجربة القانون الحالي، تقول ليس دائماً. فحين تتحكم الالتزامات القانونية في توقيتات الإصلاح، وتغيب المعرفة المبنية على البيانات ولا يتم توفير المساحات المكانية والزمانية للحوارات المجتمعية، نصدر قوانين تُنهي المشكلة من الناحية الرسمية، لكنها لا تؤسس لحلول اجتماعية طويلة الأمد.
علاقة الإيجار ليست مجرّد عقد بين طرفين. تحتاج مثل هذه الملفات إلى أكثر من سرعة التشريع أو كفاءة الصياغة القانونية. نحتاج إلى خيال سياسي، قاعدة بيانات دقيقة، تخطيط استباقي، وحوار مجتمعي حقيقي.